وقائع الثورة
أغارت بريطانية من جهة البحر بجيوشها الجرارة ومعداتها الحربية وكان بدء الغارة في شهر أيلول سنة 1914 فاحتلت الجيوش البريطانية الفاو بلا مقاومة كما احتلت عبادان ثم احتلت البصرة وجعلتها قاعدة لأعمالها العسكرية وكان صبحي بك والي البصرة وقائدها قد ارتد للقرنة فسار القائد البريطاني في إثره وهاجمه هناك فرأى صبحي بك أن لا فائدة من المقاومة سوى التغرير بمن معه من الجند فأرسل بكتاب إلى القائد الانكليزي يقترح فيه الاستسلام على أن يخرج الجيش بسلاحه فأبى القائد الانكليزي قبول هذا الشرط فاستسلم الجيش التركي بلا قيد أو شرط وكان عدده ( 1200 ) جندي و 42 ضابطا واُسر القائد صبحي بك
على أثر هذه الحادثة أقالت الحكومة جاويد باشا القائد العام للجيش العراقي وعينت سليمان بك العسكري من زعماء الاتحاديين قائداً عاماً للجيش بالعراق ودارت بعد ذلك معارك دامية بين الفريقين كان أشدها وأعظمها شأنا معركة (الشعيبة) التي هجم فيها سليمان العسكري على المعسكر البريطاني المحصن هجمة المستميت فارتد خائباً وخسر من جيشه جنوداً كثيرين لايستهان بهم ما بين قتيل وجريح وأسير ومعهم كثير من المجاهدين العراقيين كان لهذه الوقعة تأثيرها السيئ على نفس سليمان العسكري فقتل نفسه مما أصابه من الإخفاق فضلا عن أنه أصيب من قبل بشظية قنبلة فأرسلت الحكومة نور الدين بك (باشا) لاستلام القيادة العامة في العراق وكان الانكليز حين ذاك قد احتلوا العمارة من جهة دجلة واحتلوا من جهة الفرات الناصرية
جمع نور الدين بك القوى المبعثرة وأضافها إلى النجدات الجديدة فحشد معظمها في (السن) الذي يبعد عن الكوت نحو 8 أميال تقريبا من الشرق وهناك اشتبك الجيشان في القتال فانتهى بفوز الانكليز فانسحب الجيش العثماني لبلدة سلمان باك وزحف الانكليز على بلدة سلمان وهجموا على قلب الجيش العثماني وعلى جناحه الأيسر وكاد الفوز يحالفهم لولا وصول نجدة قوية من الأتراك يقودها خليل بك باشا في تلك الساعة الرهيبة فدحروا الجيش الانكليزي وأرغموه على ترك الخطوط التي تغلب عليها فارتد إلى الكوت فطارده الجيش العثماني وألقى الحصار عليه وعليها
على الرغم مما بذله الانكليز من الجهود لإنقاذ هذا الجيش المحصور لم يستطيعوا إنقاذه فاستسلم في 29 نيسان 1916 بعد أن اتلف معداته الحربية كان عدد أفراده (13500) عدا الضباط فأرسلوا أسرى إلى الأناضول أما قائده الجنرال تاوسند فقد أعدت الحكومة لإقامته قصراً فخماً في جزيرة الأمراء (بيوك أطه) فأقام فيه حتى زمن عقد الهدنة
الجنرال مود
بعد هذه الحادثة أرسل الانكليز لتقوية جيشهم حملة بلغ عددها 40*000 مقاتل تحت قيادة الجنرال مود فبدأ الهجوم على الجيش العثماني في 9 كانون الثاني 1917 فاحتلوا الخطوط الأمامية بعد عدة معارك هائلة ثم استولوا على الفلاحية في 22 منه وضعضعوا الجيش العثماني فانسحب إلى سلمان باك ثانية فأخذ الانكليز يطاردونه فلم يقو على الثبات وارتد إلى بغداد فطارده القائد مود واضطره لترك بغداد ودخل بغداد صباح 11 آذار 1917 وبعد أن سقطت بغداد استولى الجيش الانكليزي على سائر المدن العراقية بعد مناوشات ومناهدات وبذلك انطوت آخر صفحة من تاريخ بني عثمان في العراق
شرارة الثورة الأولى في الفرات الأوسط
قام حاكم لواء الديوانية الإنجليزي ديلى بارسال مبعوث إلى حاكم ناحية الرميثة (اللفتنانت هيات) يطلب منه أن يرسل له رؤساء الرميثة أجمعين بما فيهم الشيخ شعلان أبو الجون والشيخ غثيث الحرجان لينتقم منهم اشد انتقام وذلك لأعمالهم على تحريض الناس للمطالبة بالاستقلال ومحاولة إشعال الثورة هناك وعندها أرسل حاكم الرميثة من يبلغهم للمثول أمامه فاتفق كل من الشيوخ شعلان وغثيث وبعض المشايخ أن يذهب لهم الشيخ شعلان ويبقى الآخرون بانتظار معرفة نتيجة هذا الطلب وقد أرسلوا برفقة الشيخ شعلان عم الشيخ غثيث وكان الاتفاق أنه إذا ألقي به في السجن بان يقول لمرافقه أن يرسلوا له عشر ليرات ألمانية وذلك بما يعنى أن يرسلوا له عشر رجال مسلحين أكفاء لتخليصه من هذا السجن
عند وصول الشيخ شعلان إلى حاكم الرميثة استقبله بالعنف والتوبيخ واسمعه كلاما لا يليق بزعيم الظوالم فرد عليه الشيخ بالمثل وهدده بان سياسة بريطانيا ستجرها إلى عاقبة لا تحمد عقباها فانتم بالعراق وليس بهندستان وان العراقيين غير الهنود فاستشاط الحاكم غضبا وادخله السجن لحين حضور القطار إلى الرميثه وإرساله مخفورا إلى الديوانية وعندها ذهب المرافق معه وابلغ الظوالم بما حدث لزعيمهم فأرسل الشيخ غثيث الحرجان الرجال العشرة وتوجهوا إلى الرميثة برئاسة حبشان الحاج كاطع وعند وصول الأبطال العشرة إلى الرميثة عصر 30 حزيران 1920 دخل الرميثة الأبطال العشرة فقتلوا شرطيين من أفراد الشرطة الأربعة الذين كانوا في السراي واخرجوا « شعلان » من سجنه وهم يرددون هوساتهم الشعبية . فكانت تلك الرصاصة الأولى التي انطلقت في هذا اليوم «الشرارة الأولى» للثورة العراقية الكبرى
اجتماع للمشايخ بالرميثة
ولم تكن بين هذه الحادثة وبين أولي الحل والعقد في الحواضر والأرياف المهمة أية سابقة فلما وقعت وقف المخلصون تجاه الأمر الواقع إذ لا يمكن ترك أبطال الرميثة يصطلون بنار العدو منعزلين عن إخوانهم فكان لا بد من الاشتراك والاشتباك
وفي اليوم الأول من شهر تموز وصلت الأنباء إلى الميجر ديلي عن الاضطرابات التي وقعت في جنوبي الرميثة وعلى مسافة طويلة منها وقد قلع الثوار هناك قضبان السكة الحديدية وهدموا عددا من الجسور وفي اليوم نفسه حاصروا القطار الذي كان مسافراً بين البصرة وبغداد وقد جلبت سلطات الاحتلال بعض قطعات جيشها إلى الرميثة وأسندت قيادتها إلى «الكابتن براك»
بدأ الثوار يحفرون خنادقهم منذ اليوم الرابع من شهر تموز ويقيمون الاستحكامات اللازمة لهم وذلك في الشمال الغربي من الرميثة كما شرعوا في توزيع قواتهم بصورة متقنة وقد أمطر الثوار الجنود البريطانيين بوابل من الرصاص وأوقعوا فيهم (22) إصابة بين قتيل وجريح وعلم الثوار أن قطاراً مدرعاً خاصاً يحمل المؤن والأرزاق والمياه لنجدة حامية الرمثية وفيه القوات التالية :
قائد الفرقة اللفتنانت كولونيل مارمن - كتيبة واحدة من الفرقة الـ 37 لا نسرس - فصيل من بطارية الإسناد 45 - فصيل من الفرقة 45 السيك - فصيل من الفرقة 99 المشاة - ثلاثون جندياً من الأكراد الفيليين
إلا أن الثوار قد صمموا على الفتك بها وإعادتها إلى الديوانية مهما بلغت خسارتهم وفشلت محاولة فك الحصار الذي ضربه ولكن الثوار كانوا قد قطعوا خط رجعتها واشتبكوا في معركة شديدة استمرت من الظهر حتى مطلع الفجر وبلغت خسائر القوات الانكليزية (47) قتيلاً وضابطاً بريطانياً واحدا و (167) جريحاً بينهم احد الضباط أما خسارة الثوار فكانت طفيفة جداً بالقياس لهذه الأرقام
معركة العارضيات
القطار الذي دمره الثوار فى العارضيات
المجاهدين ذاهبين لمعركة العارضيات
كان عدد الثوار قد تجاوز الخمسة آلاف وقد تحصنوا في العارضيات (والعارضيات عبارة عن أربعة جداول متوازية) وقد تحصن فيها بنو عارض بقيادة رئيسهم الشيخ سوادي الحسون ثم قامت طائفة منهم بقطع السكة الحديد من الأمام والخلف وبدأت المعركة المسماة (بالعارضيات) التي لقي من ثقلها الشيء الكثير
خارطة معارك العارضيات في الرميثة
قتل من الانجليز 125 جندي وضابط ولم تستطع القوة العسكرية أن تتقدم شيئاً يذكر واضطرت إلى الاستعانة بقوات أخرى تأتيها من الديوانية لربط السكة الحديد
الاحتفالات بعد النصر في العارضيات
معركة أبي صخير
كانت قضية إشراك الشيخ مزهر الفرعون «كبير رؤساء آل فتلة» في الثورة من الأمور التي أولاها الرؤساء كافة عناية خاصة فلما ظفروا بذلك انقسمت القبائل الى قسمين :
سار الأول على الضفة اليسرى من الفرات وكان مؤلفاً من «آل فتلة» وأتباعهم وسار الثاني على ضفته اليمنى وكان مؤلفاً من آل فتلة و «آل إبراهيم» و «الغزالات» وجماعة «السيد هادي آل زوين»
فلما اقترب الطرفان من أبي صخير وصلت الباخرة «فاير فلاي» القسم الأول ناراً حامية فهاجما القسم الثاني هجوماً عنيفاً ثم انصرف الطرفان إلى مناجزة الحامية البريطانية في القرية حتى أرغموها على التحصن وقطعوا عليها سبيل الوصول إلى الماء وقد أصبحت الشامية وأبو صخير والجعارة والديوانية والرميثة حتى السماوة بأيدي الثوار كما أن السلطة أخلت كربلاء والنجف من تلقاء نفسها وأصبحت الكوفة في أيدي الثوار على الرغم من وجود الحامية البريطانية متحصنة في بعض خاناتها واتجه الثوار نحو «الكفل» فهرب موظفوها واحتلها الثوار في العشرين من شهر تموز 1920
معركة الرستمية ( الرارنجية )
ساحة معركة (الرستمية) الرارنجية
الرستمية اسم لمقاطعة زراعية واسعة تقع بين الحلة والكفل تبعد عن الأولى 18 كيلومتراً وعن الثانية 12 كيلومتراً وفي يوم 7 ذي القعدة 23 تموز استعرضت القوة البريطانية مدينة الحلة وكان يقودها (الكولونيل هاردكاستل) وهي مؤلفة بحسب رواية الجنرال هالدن من :
فصيلين من كتيبة خيالة السند 35 والبطرية 39 من المدفعية الملكية والفوج الثاني من رتل مانشستر وسرية واحدة من رتل مانشستر وسرية من فوج السيك الفني 32 وحظيرة من سرية المستشفى السيار 24
وفي عصر هذا اليوم الثاني وبينما كان الجنود البريطانيون يحفرون الخنادق ويحصنون المعسكر بحسب الأوامر الصادرة إذ بقوة الاستطلاع تنبئ عن زحف الثوار من (الكفل) بقوة تتراوح بين 2500 إلى 3000 مقاتل فذعرت القوة لهذا النبأ وقد قام رئيس عشيرة العوابد الشيخ مرزوك العواد بحركة التفاف خطيرة
أسرى الانجليز بمعركة الرارنجية
وأصبحت الجيوش الانكليزية بين نارين حاميتين وقد اظهر الثوار في حركة الالتفاف هذه من الفنون الحربية والتفنن في القتال ما حير عقول الانكليز وقادتهم فلما كان المساء ذعرت حيوانات النقل العائدة للقوة فسارت في وسط الجند ونجم عن ذلك اضطراب شديد وشقت العجلات طريقاً لها في وسط القوة فتفرق الجند وصار يقتلون بعضهم بعضاً وهم يعتقدون أنهم يقتلون الثوار فكانت الهزيمة ولم ينج من المعركة إلا النزر اليسير وقدرت خسائر الانكليز في هذه الواقعة (800) بين قتيل وجريح وأسير كما غنموا مدفعاً من عيار 18 رطلاً استعملوه في ضرب الباخرة (فاير فلاي) وإغراقها في «شط الكوفة» بينما لم يخسر الثوار أكثر من بضعة عشر قتيلاً وبضعة عشر جريحاً وقد غنموا 59 مدفعاً رشاشاً وكميات كبيرة من العتاد
إن معركة الرستمية مونت الثوار بكل ما يحتاجون إليه من عتاد وذخيرة لمدة طويلة مضافاً إلى السلاح الذي غنموه من العارضيات
ولقد سجلت معركة الرارنجية البطولة النادرة للثوار العراقيين وذلك بقيادة كل من الشيخ عبد الواحد الحاج سكر والشيخ سرتيب الفرعون وكثير من مشايخ آل فتله وأصبحت مثلا يحتذى به في بسالة الثوار الذين كانوا لا يملكون سوى «الفالات والمكاوير والسيوف» في الكوفة والحلة والهندية والديوانية وديالى وتلّعفر وبعقوبة وشهربان وفي ذرى الشمال قاتل ثوار ثورة العشرين قتالاً باسلاً وهزموا القوات البريطانية شر هزيمة لقد سجلت ثورة العشرين بطولات ناصعة خلال الشهور الثلاثة والنصف التي استمر فيها القتال ضد قراصنة الشعوب ومصاصي دمائها قل أن تفت في عضدهم مساومات الخونة وعملاء الاستعمار
جبهة الحلة
الحلة مدينة واسعة تحيط بها قبائل الجبور والبو سلطان وخفاجة وطفيل وال يسار والبعض من آل فتلة فبعد أن مني (رتل مانشستر) بنكبته في معركة الرستمية وزرعت ارض المعركة بجثث رجاله تقدمت القبائل الثائرة نحو (نهر الطهمازية) في موضع يبعد عن الحلة غرباً خمسة كيلو متر وفي هذه الأثناء قامت قبائل (بني حسن) من سكنة الهندية التابعة للشيخ عمران الحاج سعدون فاحتلت (قصبة طويريج) بدون مقاومة وهاجمت في الوقت نفسه قبائل أخرى مدينة الحلة في الليلتين 27 و 28 تموز هجمات خفيفة لجس النبض فردتها الحامية بيسر فاتجهت قبائل الشيخ سماوي الجلوب والشيخ عبادي الحسين وعمران الحاج سعدون إلى سدة الهندية فاحتلتها دون مقاومة
جبهة السماوة
أصدرت القيادة العسكرية أوامرها إلى القوات بان تتحرك إلى (السماوة) فوراً فتحركت في يوم 16 شوال الموافق 3 تموز سنة 1920 م الباخرتان (كرين فلاي) و (اف ـ 10) وقد كانتا في الناصرية مع قطار مدرع يحمل المؤن وكان في البصرة وقوة مختلطة برئاسة الميجر (مي) وكانت في الناصرية قوة من الدرك المحلي بقيادة اللفتنانت (سمبسون) لخفارة محطة الخضر وبينما القطار المدرع يجد السير للذهاب إلى (السماوة) خرج عن السكة على مسافة 8 أميال في شمالي (محطة الخضر) فتأخر وصوله إلى يوم 21 شوال 8 تموز وفي الوقت نفسه خصصت السلطة قطارين مدرعين لحماية السكة بين الناصرية والسماوة خشية أن يهاجمها الثوار أو يقلعوا قضبانها
وكانت قبائل (بني حجيم) مشغولة بمناجزة القوة المحصورة في (الرميثة) ومقاومة حملة الإنقاذ التي جاءت لفك الحصار عن هذه القوة ولما تم إجلاء الرميثة والديوانية تفرغ عرب القبيلة المذكورة لحشد جموعهم قرب السماوة وعلى رأسهم (الشيخ شعلان أبو الجون) وبدءوا يخربون السكة في مواضع مختلفة بالقرب من (محطة الخضر) حيث قوة الدرك المحلي برئاسة اللفتنانت (سمبسون) فادى الضرر الكلي الذي ألحقوه بالخط إلى انتهاء حماية القطارين لخطوط المواصلات بين الناصرية والسماوة وهكذا أصبح الخط تحت رحمة الثوار
وصدرت الأوامر في الوقت نفسه إلى القطار المدرع بالدخول في المعركة فلم يكد يقترب من ميدانها حتى تعلق العرب بمركباته ليفتكوا بمن فيه ويغنموا ما فيه ولاسيما أنهم قدروا أهمية الفوز بهذه المعركة فالحقوا به أضراراً جمة اضطروه في الأخير للعودة مدحوراً فصدرت الأوامر آنذاك إلى اللفتنانت (سمبسون) أن ينسحب وحاميته من الخضر بعد أن منوا بخسائر ثقيلة فانسحبوا ونار الثورة الحامية تنصب عليه انصباباً وقد تحرك معهما قطاران مدرعان وآخر للنقل فضايق الثوار هذه القطارات الثلاث واخرجوا بعض مركباتها عن الخط واستولوا (عند أخذهم مخفر الخضر) على مدفعين فاستعملوا احدهما في محاربة القوة التي كانت في محطة السماوة واستعملوا الثاني في محاربة القوة المحصورة في (جسر البربوتي) الذي يبعد عن شمالي السماوة ثلاثة كيلومترات وكانت إعادة مركبات القطارات للخط محفوفة بمخاطر ومصاعب غير منكورة وهكذا تمكنت (قبائل بني حجيم) أن تبدد بضربة واحدة آمال الحاكم السياسي في السماوة التي كان يعلقها على بقاء (مخفر الخضر) بيد الحامية الانكليزية
جبهة الكوفة
عهد الثوار لقبيلة بني حسن بقيادة الشيخ علوان الحاج سعدون المجاورة لقصبة الجسر بالكوفة حصار الحامية الانكليزية ومنع الطعام عنها حتى تذعن إلى الاستسلام وقد اتخذت السلطة مختلف التدابير لفك الحصار عن الحامية فلم توفق وما النكبة التي منيت بها القوة العسكرية في جبهة الرستمية إلا إحدى الوسائل التي تذرعت بها لهذا الغرض
وقد استعمل الثوار مختلف الأساليب البارعة لحمل الحامية المذكورة على التسليم فقد تفننوا بهدم البيوت وحفر الخنادق وثقب الجدران للوصول إليها ومنع الطعام عنها ولولا أكياس الدقيق والعقاقير التي كانت ترميها الطائرات عليها لماتت جوعاً ولفتكت الأمراض بها فتكاً ذريعاً
الباخرة فاير فلاي التي أحرقها الثوار
وكان الثوار قد غنموا مدفعاً من عيار 18 رطلاً وكانت الباخرة (فايرفلاي) في (شط الكوفة) تقلق بال الزعماء وتقض مضاجعهم بما كانت تصبه على الثوار من النيران المتواصلة لتحول وبين الحامية لأنها كانت مجهزة بمدفعين واثني عشر رشاشاً وقد صوب الثوار النار على الباخرة فقلبوها ودمروها في 17 آب 1920 وذلك بالمدفع الذي غنموه من الرارنجية والذي احضره الشيخ عباس لهوف وبعد تدميرها ولجوء أفرادها إلى معامل الحامية بعد أن فقدوا بضعة أنفار فاستراح الزعماء من شرورها ولكن الانكليز ركنوا إلى طائراتهم مع أن الثوار لم يكونوا يملكون غير البنادق والمكاوير والسيوف فكانت هذه الطائرات تصب حممها على الجموع غير مبالية بما يكون تحتها من مساجد أو معابد أو نساك أو زهاد أو أطفال أو نساء ولعل افجع ما قامت به إلقاؤها القنابل على المتواجدين في مسجد الكوفة في يوم 8 ذي القعدة سنة 1338 هـ فقتلت جملة من الأبرياء وجرحت أكثر من عشرين كما قتلت النساء والأطفال وهدمت المسجد المذكور
جبهة الدليم
كان الشيخ ضاري المحمود زعيم عشيرة الزوبع عدواً لدوداً للانكليز وقد دعاه الكولونيل لجمن إلى مقابلته في (خان النقطة) بين بغداد والفلوجة في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الخميس الموافق 12 آب 1920 فحضر الشيخ ضاري وحضر معه أولاده «خميس وسلمان وصليبي» مع جماعة من أولاد عمه ولما حضر لجمن صار يقص عليه قصة قبض سلطات الاحتلال على الشيخ احمد الداود وإفلات كل من جعفر أبو التمن والشيخ يوسف السويدي وعلي أفندي وهروبهم إلى منطقة الفرات الأوسط ومن ثم وجه له الإهانة باتهامه انه قاطع للطريق هو وعشيرته فخرج من الخان والألم يحز في نفسه وبعد لحظات عاد ومعه ولده سلمان وأبناء عمه صكب وصعب فوجهوا فوهات بنادقهم إلى رأس لجمن وأطلقوا النار عليه فاردوه قتيلاً ثم أجهز عليه الشيخ ضاري بسيفه
واتجه الجميع إلى قبيلة المحامدة قرب الصقلاوية حيث اخذ الشيخ ضاري يراسل زعماء الثورة في كربلاء فعم الهياج منطقة الدليم من (خان النقطة) إلى (عانة) وقد اشتركت عشيرة زوبع اشتراكاً فعلياً حيث انتقل الشيخ ضاري إلى (خان العطيشي) بين كربلاء والمسيب واتخذه مركزاً لقيادة الحديدية الذاهبة إلى الفلوجة وعرقلوا بذلك وصول الإمدادات إلى جيوش الاحتلال وفي 18 أيلول 1920 أسقط الثوار إحدى الطائرات البريطانية وبعد هبوطها قرب الفلوجة حطموها واسروا ركابها أما الشيخ ضاري المحمود فقد استثناه المندوب السامي (السير برسي كوكس) من قرار العفو العام الذي أصدره في 30 أيار 1921 فبقي يجوب الفيافي والقفار وقد أصدرت الحكومة البريطانية مبلغاً من المال لمن يأتي به حياً أو ميتاً
وفي خريف سنة 1927 استأجر الشيخ ضاري سيارة للذهاب إلى (حلب) فجاء به سائق السيارة الأرمني (ميكائيل كريم) إلى السلطات الحكومية في (سنجار) فاعتقلته وحوكم أمام محكمة الجزاء الكبرى في بغداد فقضت بالحكم عليه بالإعدام ولكنها أبدلت العقوبة للسجن المؤبد ولم يبق في السجن أكثر من بضعة أيام حتى توفاه الأجل بعد دس السم له في الطعام في يوم أول شباط 1928
جبهة ديالى
في الثامن من شهر آب شرعت القبائل من البو هيازع والعزة في تخريب السكة الحديدية وذلك بعد أن أشعل الشيخ حبيب الخيزران شيخ عشيرة العزة فتعطلت المواصلات بين العراق وإيران وهو ما أراده زعماء الثورة وانقطع سير القطار فوراً وشعر الحاكم العسكري السياسي في «بعقوبة» بالخطر يحيق به فخرج منها هارباً فاحتلها الأهالي وأقاموا السيد محمود المتولي حاكماً عليهم واتخذوا دائرة البريد مقراً للحكومة ورفعوا عليها العلم العراقي وما كادت أنباء الثورة في (لواء ديالى) تصل مسامع القيادة العامة في بغداد حتى جن جنونها فجهزت قوتين ولكن فقدان المواصلات بين بغداد وبعقوبة وعدم انتظامها حال دون وصولها
كما أن الثوار سرعان ما تقدموا إلى قرية (قزلرباط) (السعدية) واحتلوها وتحركت القوتان المذكورتان من (بغداد) في اليوم العاشر من شهر آب وقد هاجمها الثوار في 27 ذي القعدة 12 آب هجوماً عنيفاً أذهل خيالتها وجعل الذعر يتسرب لحيواناتها فلما استرجعت رشدها وتجمعت قواها شرعت مدفعيتها في قصف الثوار قصفاً شديداً كما قامت القوة الثانية بحرق القرى
وفي اليوم التاسع من شهر أيلول 1920 احتل الجيش البريطاني «شهربان» وبعد أن وطد الاحتلال قدمه في بعقوبة وشهربان سار اللواء 75 إلى قصبة «دلتاوه» التي تبعد 20 كيلومتراً شمال شرق بعقوبة فاحتلها بعد مقاومة طفيفة وأعلن الأحكام العرفية فيها وقد حرقت بيوت جميع الذين اشتركوا في الثورة في دلتاوه وصودرت أموالهم ثم انتقل الجيش إلى السعدية القائمة على (نهر ديالى) تسانده الطائرات من الجو والمدافع من البر وفي 28 أيلول احتل الجيش قزلرباط بدون مقاومة وبذلك انتهت الثورة في لواء ديالى
جبهة كفري وكركوك
جمع الشيخ إبراهيم خان رئيس عشائر الدلو لفيفاً من أفراد عشيرته وجماعة من الجاف وصعد بهم إلى جبل (بابا شهوار) الذي يطل على كفري وشرع إطلاق الرصاص على سراي الحكومة فيها وقد أصر الكابتن سلمن أن يصعد إلى الجبل لملاقاة زعيم الحركة وما كاد يرتقي الجبل حتى أوقفه الثوار فيه وهجموا على السراي وجردوا «الشبانة» من سلاحها ونزعوا العلم البريطاني عن ساريته ونهبوا ما كان في الدوائر الأميرية من مال وعتاد وأثاث وقام الثوار بقتل الحاكم سلمن في يوم 26 آب 1920
وفي كركوك تشكلت جمعية سرية تبشر بعودة الأتراك إليها وتعمل من الناحية الأخرى مع الوطنيين في سائر أنحاء العراق على مناهضة الاحتلال وكان الشيخ قادر الباه منصور الطالباني قد انتخب معتمداً لرؤساء القبائل الذين انتموا إلى هذه الجمعية السرية في حينه وتجاوباً مع الثورة في كفري اتخذ الشيخ قادر التدابير اللازمة لقطع المواصلات وقد هاجم جيش الاحتلال قرية الشيخ قادر بالمشاة والطائرات فما وسع الشيخ غير الفرار بعد أن دحرت قريته وأهلكت مواشيه فبقي شريداً حتى شمله قرار العفو العام الصادر في 30 أيار سنة 1921 أما بقية أعضاء الجمعية فقد قبضت السلطة على بعضهم واستطاع البعض الآخر ان يفلت من إجراءاتها
الثورة في قلعة سكر
عندما اندلعت الثورة في «الرميثة» و «أبو صخير» وغيرهما في قرى الفرات الأوسط حاول «الكابتن كراوفورد» حاكم قلعة سكر السياسي أن يخفف من نشاط الوطنيين في القلعة فصمد له بعض المتحمسين وأطلق النار عليه ولكنه نجا من الموت وطلب إلى الحاكم الملكي العام أن يوافيه ببعض الطائرات لإرهاب الأهالي ولكن الحاكم أوعز إليه بالسفر إلى الناصرية وذلك لحراجة الوضع الذي تعانيه قوات الاحتلال
وعندما غادر «الكابتن كراوفورد» قلعة سكر من منتصف ذي الحجة 1338 هـ عمد الأهالي إلى دار الحكومة فاحتلوها والى الحرس المحلي «الشبانة» فجردوه من السلاح والى العلم البريطاني فأنزلوه واجتمع لفيف من الزعماء والرؤساء في جوار القلعة في موضع يسمى «المصيفي» ووقعوا هذا الميثاق :
1 ـ المطالبة باستقلال العراق استقلالاً تاماً ناجزاً
2 ـ المحافظة على المؤسسات الحكومية المفيدة : كالمستشفيات والجسور وغيرها والانتفاع بها عند الحاجة
3 ـ إتباع ما يأمر به العلماء المجتهدون
4 ـ أن تتعهد كل قبيلة بمحافظة الطريق الذي يخترق حدودها وان تضمن أرواح المسافرين فيها وأموالهم
5 ـ تأليف هيئة محلية في كل بلد يحتله الثوار تكون مهمتها المحافظة على الأمن والسهر على أرواح الأهالي
الثورة في الشطرة
كان من أسباب عدم نهوض العشائر في الشطرة بقسطها في الثورة تواطؤ الشيخ خيون العبيد مع الحاكم البريطاني وبطانته
ويقول «برترام توماس» حاكم الشطرة السياسي انه لما تلقى الأمر بمغادرة الشطرة اصطحب الشيخ خيون العبيد وسائر الشيوخ الموالين للمطار ومعه قائد الشبانة وخاطبهم بأنه سيعود إليهم بعد أن يستتب الأمن والنظام وانه أودع منصبه للشيخ خيون
الجنرال هالدن
ويقول الجنرال هالدن «إن الشيخ خيون لم يصغ لنداء الجهاد الذي أعلنه العلماء ضدنا واحتفظ بولائه لنا حتى الأخير» و «أن جهود الشيخ المذكور كانت السبب الرئيس في عدم توسع الثورة وشمولها لمنطقة شط الحي ولكن وفي هذه الفترة نفسها وصل من النجف «الشيخ محمد نجل المجتهد الشيخ حبيب الله» حاملاً راية خضراء لاستنهاض القبائل فجمع حوله لفيفاً من المسلمين التابعين لقبائل خفاجة آل أزيرج واهل الشطرة والقرى المجاورة وعسر بهم في البطيخة وتبعهم جمهور كبير من «البو سعيد» «بني زيد» فمكثوا مع الثوار زهاء أربعة أشهر يهاجمون الناصرية بين الفينة والفينة دون نجاح
الثورة في سوق الشيوخ
لم يكد رؤساء سوق الشيوخ وزعماؤها يتلقون أنباء الثورة في الرميثة وأطرافها حتى أعلنوا خصومتهم للسلطة الحاكمة فاضطر معاون الحاكم السياسي فيها لترك القصبة والفرار إلى الناصرية وقد أطلقت عليه النار ذات يوم وهو في زورقه البخاري فنجا من الموت بأعجوبة وتسلم الثوار إدارة القصبة ورفعوا العلم العراقي بدل العلم البريطاني على المؤسسات الحكومية وكونوا حرساً محلياً لحفظ الأمن على نحو ما فعلوه في قلعة سكر والشطرة ثم جردوا قوة وطنية تمثل سوق الشيوخ والقبائل المحيطة بها وعسكرت في جبهة الناصرية الشرقية لتشديد الحصار على الحامية البريطانية المتجمعة فيها من أطراف اللواء واستمرت في المناوشات معها طوال أيام الثورة على شدة القصف الجوي الذي كانت قد تعرضت إليه
الأسلحة التي استخدمها الثوار ضد الإنجليز
المكوار
الفالة
الخنجر
البندقية
بعض المراسلات بين شيوخ العشائر
رسالة من ملك الحجاز الحسين بن على إلى محمد تقي الشيرازي
بوادر فشل الثورة
لما انسحبت الحاميات البريطانية والممثلون السياسيون في قلعة سكر والشطرة وسوق الشيوخ إلى الناصرية تجمعت حول الناصرية جموع غفيرة من بني سعيد برئاسة الشيخ مظهر الحاج صكب وبني زيد وبني ركاب ولفيف من خفاجة والازيرج برئاسة الشيخ خوام العبد العباس وحجام وغيرها فكانت هذه الجموع تغير على معسكرات الجيش البريطاني في بعض الليالي وتوقع فيها بعض الأضرار ولكن عند انتهاء الثورة في الفرات الأوسط ذابت جبهة المنتفك قبل أن يحدث أي التحام منظم بينها وبين قوات الاحتلال كما حدث في أواسط الفرات وعاد الثائرون لمنازلهم لمجرد أن ترامت إليه الأخبار بانصراف إخوانهم فأصدرت سلطات الاحتلال في بغداد البيان التالي :
«اشعر حاكم سياسي الناصرية في 17 تشرين الثاني أن الموقف في المنتفك اخذ بالتحسن وقد جاء إلينا أربعة شيوخ من البو سعيد في الغراف وقد كتب لنا موحان الخير الله يقول انه ينتظر أن يسود الأمن في الطريق ليأتي إلينا وفاتحنا بالمفاوضة ثلاثة آخرون من كبار الشيوخ التي كانت قرب السكة والزعماء الآن في المدينة يتفاوضون مع الحكومة»
ويقول إيرلند في كتابه (وعندما ضغطت على أمير ربيعة بدفع ما كان مستحقاً عليه من بقايا الضرائب في 1922 أفاد بأنه كان قد وعد من قبل البريطانيين في سنة 1920 بان يعفى من الضرائب لقاء مساعدتهم في إيقاف انتشار نيران الثورة في وادي دجلة وهو وحده الذي حال دون نشوبها هناك)