لم تهدأ الثورة في دير الزور رغم اشتعال الثورة في مناطق الفرات والجنوب بكامله، التي انطلقت من الرميثة في 30 حزيران 1920. وانتقال مركزية الثورة إلى جنوب العراق. وبعد دخول القوات الفرنسية المحتلة إلى سورية في 24 تموز 1920 تابعت ثورة دير الزور عملياتها العسكرية وتقف إلى جانبها الثورة في جنوب العراق، ومن تلك العمليات التي جرت في تموز وآب 1920 نذكر:
حركة المجاهد نجرس العكود
اتفق الشيخ مشرف الدندل في البوكمال مع نجرس العكود أحد رؤساء عشائر الدليم، والمغير بن عفتان الشرجي رئيس عشيرة البو محل، وعدد من رؤساء عشائر البونمر والجغايفة على تشكيل مجموعات مسلحة، تقوم بالإغارة على مراكز ومعسكرات الجيش البريطاني في العراق. وبدأت تمارس الإغارة، ونصب الكمائن للقوافل العسكرية البريطانية، على مساحة واسعة في العراق تمتد على طريق الشرقاط وحمام العليل. ما بين تكريت والموصل. شلت تلك الغارات والكمائن خطوط المواصلات في تلك المنطقة.
وكانت غنائم المغيرين كبيرة، مما أثار حنق القيادة البريطانية في العراق. حيث قواتها تقاتل في الجنوب والشمال، وهم في الوسط، وصبَّ الإنكليز حنقهم وغضبهم على الشيخ نجرس الكعود. ووصفه الجنرال هالدن قائد القوات البريطانية في العراق بأنه من أشد الخصوم للإنكليز في العراق، وفي منطقة الفرات الأعلى خصوصاً. لما شكلت حركته من خطر وعبءً على القوات الإنكليزية.
أما أسباب حركة الشيخ نجرس الكعود ضد الإنكليز فيقول المؤرخ العراقي علي الوردي: "هناك قولان في تعليل هذا العداء من نجرس للإنكليز. أحدهما أنه كان بينه وبين علي السليمان منافسة على رئاسة عشائر الدليم. ولما كان علياً موالياً للإنكليز، صار نجرس بطبيعة الحال معادياً لهم، والثاني أن نجرس كان له ثأر مع الإنكليز لأن ليجمن كان قد قتل أخاه "صبار"( 1 ). إلا أن هذه الأسباب قد يكون عاملها الثاني معقولاً. حيث أن الثأر عادة لا تزال مستمرة في عشائر الفرات. أما السبب الأول فهو موضوع تساؤل، فنجرس عُرف بوطنيته وحبه لوطنه وعدائه المطلق للإنكليز، ولم يكن أبداً هذا العداء بدافع سلطة. لقد كان الشيخ نجرس أهم رؤساء عشائر الدليم، ومن الرافضين للتعاون مع الإنكليز. كما كان حال علي السليمان رئيس اتحاد عشائر الدليم.
واستعصى أمر الشيخ نجرس على الإنكليز، فلم يستطيعوا القضاء عليه بالمواجهات القتالية. فاستخدموا طريقة خبيثة. وهي خلق صراع داخلي بين العشائر ليقاتلوا بعضهم بعضاً، فيتخلصوا من أعدائهم، فاستمالوا إلى صفوفهم الشيخ عاكوب رئيس عشيرة البوحمد بالمال والجاه. بعد أن كان من ألدِّ أعداء الإنكليز. وله جهاد ضد قواتهم بالإغارة والكمائن على قوافلهم، فمنح الإنكليز الشيخ عاكوب أراضي "بنجمه" في منطقة "القيارة" وأعطوه راتباً شهرياً قدره ألفا) روبية. ولقاء هذه المنح طلبوا منه حراسة الطريق بين "القيارة- وحمام العليل ( 2 ) وهي المنطقة التي تتحرك فيها قوات الشيخ نجرس العكود.
بدأ الشيخ عاكوب وقوته العشائرية تتصدى لقوات نجرس المُغيرة على القوات الإنكليزية، وتأخذ منها ما غنمته من تلك الغارات، وأربكت حركة عاكوب الخيانية الثورة في الموصل التي يقودها حزب العهد. ووجدوا أن ارتداد عاكوب سوف يحبط عملياتهم المناصرة للشيخ نجرس. فأرسلوا إلى عاكوب أحد أعضاء حزب العهد هو /سعيد العبد/ يبحث معه أسباب هذه الردّة وأثرها على الثورة، وليوجه له عتاباً على تعاونه مع أعدائهم الإنكليز، ويذكره بأنه كان وطنياً ثائراً له سمعته في نفوس الشعب.
وبعد أن تم لقاء سعيد مع عاكوب ونقل إليه ما طلب منه، نفى عاكوب تعاونه مع الإنكليز. وأما تصديه لجماعة نجرس الكعود، تعود لعداء شخصي مع نجرس نفسه، وكذلك مع الجغايفة والعكيدات. وسبب هذا العداء يعود بأنهم قاموا بالإغارة عليه من قبل. وخرج سعيد من عاكوب بعد أن وعده بأن لا يتصدى بعد للمغيرين من الثوار على الإنكليز، وأنه سيتعاون مع الثوار، ولكنه رفض إعادة الغنائم التي سلبها من الثوار( 3 ) .
دخول عانه
استمرت حركة التحالف وبقية الحلفاء بالإغارة على خطوط نقل القوات البريطانية. ولم يمنعهم احتلال فرنسا لدمشق من مهاجمة القوات الإنكليزية. فقامت مجموعة من العكيدات بنصب كمين لقافلة إنكليزية على طريق "البارج" القريب من مدينة عانه، وقتلوا ثلاثة من الجنود الإنكليز، وغنموا كميات كبيرة من العتاد والسلاح، كما استشهد عدد من الثوار من بينهم /علوان الفرحان/ من البوخاطر، وكان هذا الشهيد بطلاً أثناء الكمين، حيث قتل وحده الجنود الثلاثة. واستشهد أيضاً /فرحان العلوان/ من البوخاطر - و /عبد الله الحسين/ من البومريح - و /خشان العبد الله المحمد/ من الحسون و /ابن ربيدان/ من العبيد. كما أن هناك العديد من الجرحى (4 ).
وقامت مجموعة أخرى من عشائر العكيدات في البوكمال بمهاجمة مقرات الجيش الإنكليزي في مدينة "راوه" المجاورة لمدينة "عانه". ثم دخلت قوات من عشائر العكيدات بلدة "عانه"، ونهبوا دار الحكومة فيها، ودور كل المتعاونين مع الإنكليز في البلدة. وازداد ضغط العشائر على القوات الإنكليزية في مدينة عانة وحولها، فقررت القوات الإنكليزية في /5/ آب /1920/ الجلاء عن عانه ( 5 ). وبعد ذلك قتل اللفتانت كولونيل ليجمن الحاكم السياسي في الدليم السيء الصيت.على يد أبناء الشيخ ضاري بن ظاهر شيخ آل زوبع.
تحولت منطقة الدليم بفعل عمليات العكيدات المنطلقة من البوكمال جحيماً للقوات الإنكليزية، فلم يشفع لها الانسحاب من عانه. بل بقيت حركة الثورة مستمرة، لهذا استخدمت أيضاً حلفاءها من شيوخ العرب للاستعانة بهم ضد العشائر الثائرة، فاستعانت بالشيخ علي السليمان رئيس اتحاد الدليم، ومحروث الهذال شيخ العنزة لوقف حركة العشائر الثائرة. إضافة إلى استخدام الطيران والدبابات والمدفعية لقصف مساكن العشائر الثائرة. وأمام هذا الضغط انسحبت العشائر الثائرة من سورية. واستعادت القوات الإنكليزية مدينة عانه بعد تحريرها.
مولود مخلص يحرض العشائر العراقية على الثورة.
كان مولود مخلص حاكم دير الزور العسكري يقدم الدعم للحركات العشائرية في مناطق دير الزور لمتابعة الثورة على الإنكليز. وبعد انفجار الثورة في مناطق النجف وكربلاء والرميثة. واصل مولود رسائله التحريضية ضد الإنكليز والتي كان يرسلها لزعماء العشائر في كافة أنحاء العراق. وقد أبرق أرلوند ولسن الحاكم العام البريطاني برقية إلى وزارة شؤون الهند في 30 تموز 1920 يقول فيها حول نشاط مولود مخلص "ليس فقط لا يقف موقفاً مختلفاً، بل هو ينشط بتحريض العشائر في أنحاء ما بين النهرين على التمرد والعصيان. وقد وصلت رسائله إلى العشائر إلى حد العماره" ( 6 ).
كما أخبر ارلوند ولسن وزارة شؤون الهند بأن حربه مع القوات الثائرة المنطلقة من دير الزور حرب حقيقية، وفي حالة حرب فعلية تقوم بين القوات الشريفية وقوات صاحب الجلالة في ما بين النهرين ( 7 ) .
مقتل الكولونيل ليجمن
جاءت حادثة مقتل الكولونيل لجمن لتكون نهاية إفرازات ثورة دير الزور، والتي بدأت تخبو نيرانها بعد الاحتلال الفرنسي لسورية، وانقطاع الإمدادات العسكرية والمالية التي كانت ترسلها حكومة فيصل العربية من دمشق. حيث بقيت القوات العشائرية اللاعب الرئيسي المتبقي لدى الثورة، تقوم بأعمال الإغارة والهجوم ضد القوات الإنكليزية.
أما كيف قتل الكولونيل /لجمن/ فقد كتبت جريدة "بغداد تايمر Baqhdad Tims " خبراً جاء فيه: "ننعي بكل أسف وفاة اللفتنت كولونيل جيرار لجمن. . I. A ) من آلاي سبكس الملكي. الملحق بالإدارة الملكية في العراق. المتوفي في خان النقطة. في 12 آب 1920. وعمره /40/ سنة.
والظاهر أن قتله جرى عمداً، وأن قاتله هو خميس. أكبر أولاد الشيخ ضاري المحمود، زعيم عشيرة الزوبع وقد فتك به، وهو ضيفه. وفي الليلة التي كان فيها نائماً تحت خيمته، وقتل معه حوذي سيارته، وهو من أبناء العرب. ووجد جثمان المقتول بعد قليل في الخان، فحمل إلى الفلوجة، ودفن في إحدى المحطات العسكرية. ( 8 )
أما قصة مقتله كما يروي المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني، إن الشيخ ضاري كان عدواً لدوداً للإنكليز كما كانوا هم يعرفونه كذلك. وقد دعا الكولونيل لجمن، الشيخ ضاري المحمود، لمقابلته في "خان النقطة" بين بغداد والفلوجة في الساعة العاشرة والنصف زوالية من صباح يوم الخميس الموافق في 27 ذي العقدة 1338. و 12 آب 1920، فحضر الشيخ في الوقت المعين، وحضر معه ولداه خميس وسلمان، مع جماعة من أولاد عمه بينهم "صكب وصعب". ولما حضر ليجمن صار يقص على الشيخ ضاري قصة قبض حكومته البريطانية على الشيخ أحمد الداود في اليوم الفائت 11 آب 1920. وكيفية تخلص كل من السادة: جعفر أبو التمن، ويوسف السويدي. وعلي أفندي، وهربهم إلى منطقة الفرات الأوسط. وكيف أن الحكومة جادة في استئصال أعمال الشغب في بغداد، وإنهاء الموالد النبّوية، وإعلان الإدارة العرفية... إلخ.
وفيما هو يتحدث بهذه المواضيع أُتصل به أن عصابة من الأعراب هاجمت سيارة أهلية على مقربة من "خان النقطة" الذي اجتمعا فيه، فأُوعز إلى "قائد الشبانة" أن يصطحب الشيخ خميس الضاري مع اثني عشر من رجاله لتعقب الجناة، واستعادة ما سلبوه من السيارة.
وما لبث أن عاتب الشيخ ضاري على هذا العمل، موجهاً إليه تَبعتهُ، ثم أسمعه كلاماً لا يمكن لرئيس قبيلة -مثله- أن يتحمله. فما كان من الشيخ إلا أن خرج من "الخان" وهو يحمل ألماً في نفسه، وبعد لحظات، عاد، وعاد معه ولده سلمان، وابنا عمه صكب وصعب. فوجه كل من سلمان وصكب وصعب فوهات مسدساتهم إلى رأس الكولونيل لجمن، وأطلقوا النار عليه. فأردوه قتيلاً، واتجهوا إلى قبيلة المحامدة، قرب الصقلاوية. حيث أخذ الشيخ ضاري يُراسل زعماء الثورة في كربلاء. فعّم الهياج منطقة الدليم. من خان النقطة إلى عانه. وصدر البلاغ البريطاني التالي "قطع الشيخ ضاري، رئيس عشيرة الزوبع السكة الحديدية الممتدة من بغداد إلى الفلوجة. قرب خان النقطة. لكن السكون سائد في فلوجه ورمادي. كذا، والحاميات القوية القائمة في هاتين البلدتين سالمة، ولم تزعج، على أن الأنباء تفيد أن ملاحي بعض المراكب الصغيرة التي بين الرمادي وفلوجه، قد ضايقهم الثوار. فاضطروهم إلى إخلاء مراكبهم والسكون سائد في عانه التي يحتلها الدليم" (9) .
أشعل الشيخ ضاري ثورة واسعة في منطقة الدليم، وبدأ ينتقل من عشيرة إلى أخرى، يحرضها على مجابهة القوات الإنكليزية. وقد طارده الإنكليز الذين عجزوا عن إلقاء القبض عليه، على الرغم من تدمير معظم مساكن عشيرته. فاستخدموا حلفاءهم من زعماء العشائر. فطلب الشيخ علي السليمان من الشيخ ضاري الرحيل عن منطقة الدليم، حتى لا يتحرج موقفه مع الإنكليز، ورحل إلى أراضي /الرزازة/ فحاول ابن هذال إلقاء القبض عليه، وتسليمه لأصدقائه الإنكليز. ولكنه فلت من كمين ابن هذال.
وأصبح الشيخ ينتقل من مكان إلى آخر والقوات الإنكليزية تطارده، وأقدم الإنكليز في 3 أيلول 1920 على هدم قلعة الشيخ ضاري، وقطعوا المياه عن مزارعه التي ماتت عطشاً، ورد عليهم الثوار باحتلال مدينة /حديثة/ على نهر الفرات، ثم أحرقوا سراي /عانه/. وفي 18 أيلول أحرق الثوار إحدى طائرات القوات البريطانية التي اضطرت للنزول قرب الفلوجه، وأسروا ركابها. ولكنهم أطلقوا سراحهم بضغط من الشيخ ابن هذال ( 10 ) ، وفي 24 أيلول 1920 استطاعت القوات البريطانية استعادة خطوط المواصلات من أيدي الثوار. فغادر الشيخ أراضي العراق. ودخل إلى سورية عن طريق البوكمال. حيث حلَّ ضيفاً على العكيدات. ثم انتقل إلى دير الزور والتقى الشيخ محمد سعيد العرفي وعدداً من الوطنيين. وبقي في سورية رغم صدور العفو البريطاني عن الثوار في العراق في 30 أيار 1921 حيث رفض الإنكليز العفو عن الشيخ ضاري. وفي خريف 1927 خان به أحد السائقين الأرمن فبدلاً من أن يوصله إلى حلب، قام بنقله إلى الحدود، بعد أن عرفه وسلمه في /سنجار/ للسلطات البريطانية. حيث حكم عليه بالإعدام الذي أبدل إلى المؤبد. توفي في السجن بعد أيام، ودفن جثمانه الطاهر في 1 شباط 1928 في بغداد بعد أن شيعه العراق بكامله.
(1) د. علي الوردي. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث- مصدر سابق- ج5- ص 144- 145.
(2) المصدر السابق ص 145.
(3) قحطان أحمد عبوش التلعفري "ثورة تلعفر" بغداد 1966 ص 138- 140.
(4) أسعد الفارس -مدينة وشعب على الفرات الأوسط- مصدر سابق ص 111
(5) د. وميض جمال عمر نظمي -الجذور السياسية- مصدر سابق- ص 385.
(6) F. O- 371- 5128- E- 115- 30 June 1920.
(7) F. o. 371- 5129- E- 634- 8 June 1920.
(8) جريدة العراق- العدد / 69/ 20 آب- 1920.
(9) عبد الرزاق الحسني- الثورة العربية الكبرى- مصدر سابق ص 161- 162.
(10) المصدر السابق ص 163.
الاخ العزيز عكيدي وافتخر تحيه طيبه واشكرك على هذا النقل الرائع لاحداث ثورة العشرين المجيده ورد لديك او بالاحرى لدى كاتب المقال خطا بسيط وهو اسم المغير بن عفتان الشرجي وهو خطا والحقيقه الاسم هو الشيخ عفتان الشرجي اما بالنسبه لباقي الموضوع فعاشت ايدك
واريد اسالك عن الشيخ عاكوب المذكور هل هو من قبيلة الجنابيين او لا لانني اعرف ان الشيخ نجرس الكعود كان على عداء معهم ولك الف تحيه وتسلم يا غالي