تسجيل جديد
اختر لونك المفضل
 الشويطي
 11:07 PM
 14.01.07
في كل زمان ومكان حَيّات تعمل على إشعال الفتن بين الناس، وتأليب قلوب الجميع على الشر، وقد سجَلَ لنا التاريخ صراعاً كاد يحسم وجود إحدى الطائفتين في يثرب، ففي تلك الأيام قبل الإسلام كادت الحروب العصبية، مثل يوم بعاث وحرب الفِجار، تُفني إحدى القبيلتين وتُهلك الحيين.

ولقد كانت هناك أصابع خفية وراء اغلب تلك الحروب، تثير النار التي تحت الرماد، وتغذي ثارات العصبيّة الكامنة بالأحقاد بينَ هاتين القبيلتين اللتين تفرعتا من أصلٍ واحد.

وكم كانت فرحة وفد المدينة كبيرة عندما قدموا من المدينة يلتمسونَ الحلفَ من قريش على قومهم من الخزرج، فقال لهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم: “هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له”؟ فقالوا وما هو؟ فدعاهم إلى الإسلام، وقرأَ عليهم القرآن، فقال إياس، وكانَ أصغرهم وأعقلهم: هذا واللّه خير مما جئنا له.

وما أن جاءَ العام المقبل حتى وافى الموسم اثنا عشَرَ رجُلاً من سادة الأوس والخزرج ونقبائهم، وكانَ الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في العقبةِ بانتظارهم، فعقدوا البيعة الأولى، وبعد أن حل موسم الحج التالي كانت بيعة العقبة الثانية، وبعدها عاشَ الأوس والخزرج بأروعِ ما يكون الشعور الإيماني، فذهبت الأحقاد من القلوب: “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (الأنفال: 63).

وشعر الذينَ كانوا يغذونَ الخلافات والعصبيات بالخيبة والفشل، وأدركوا أنهم لا يستطيعون بعد اليوم أنْ يلعبوا بالمشاعر والعواطف، كما فعلوها يوم بُعاث وغيره من الأيام، فقد تبدّلت الهموم الصغيرة إلى هموم كبيرة، والتطلعات الضيقة إلى تطلعات رسالية عظيمة.

نار الفتنة



وكان شاس بن قيس اليهودي عظيم الكفر شديد الحسد والطعن على المسلمين، فاتفق أنه مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون، وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح.

فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: “أترجِعُون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهُركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم”؟

فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ..” (آل عمران: 100 103).

الاعتصام بالله



إن العبر في تلك القصة لا تحصر عدا، وأهمها أن الاستسلام لإغواء الأعداء أول أبواب الفتنة والضياع، فهناك من يصطاد في الماء العكر، بل هناك من يعكّر الماء ليصطاد فيه.

نرجع إلى التفسير فقوله: “إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب” يحتمل أن يكون المراد منه هذه الواقعة، ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإغواء والإضلال.

فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء، وأما في الدين فظاهر.

ثم قال تعالى: “وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله” وكلمة “كيف” تعجّب، والمراد منه المنع والتغليظ، وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالا بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة، كالمانع من وقوعهم في الكفر، وقوله: “إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين” تنبيه إلى أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام، ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يكشف عنها.

ثم قال: “ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم”، فبعد أن ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد، ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة، والعصمة المنعُ في كلام العرب، والعاصم المانع، قال قتادة: ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما: تلاوة كتاب الله، والثاني: كون الرسول فيهم وسنته وتعاليمه باقية معنا والكتاب باقٍ على وجه الدهر.

ولنعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بأصول الطاعات ومعاقد الخيرات، فأمرهم أولاً: بتقوى الله وهو قوله “اتقوا الله”، وثانياً: بالاعتصام بحبل الله، وهو قوله: “واعتصموا بحبل الله”، وثالثاً: بذكر نعم الله وهو قوله: “واذكروا نعمة الله عليكم”.

لقد أنزل اللّه سبحانه آيات بيِّنات تُتْلى على مدى الأَجيال والأزمان، لتحذّر الأمّة من طاعة الأعداء والاستماع إليهم، والانجرار وراء مخططاتهم، كما تحذرها من سوء النعرات القبليّة والعصبيات القوميّة لأنها أساس كل بلاء وهزيمة
Up