تسجيل جديد
اختر لونك المفضل
1 2 
 علي الساري
 04:53 PM
 18.09.06
اخوتي واخواتي المشرفين والاعضاء
تحية من القلب

في فترة اجازتي التي قضيتها بأرض الوطن وبتجوالي في المدينة لفت نظري رواية في مكتبة شدني اسم الرواية ولأنني احب القراءة أشتريتها وقرأتها فأعجبتني كثيرا .
جاء على خاطري عند نهاية الرواية ان اضيفها الى منتدائنا الرائع فقد اشتقت اليه كثيرا في فترة الغياب عنه.
احببت ان اقدم هذه الرواية الجديدة هدية العودة وحلول شهر رمضان الكريم اعاده الله عليكم باليمن والبركات والتي تحمل للحبيب من طول غياب .

لكن استسمحكم بعنوانها حتى اطمع في ردودكم الطيبة والتي تشجعني على كتابتها على حلقات .

وسوف اطلعكم على عنوانها وكاتبها عند نهاية القصة .

راجيا من الله عز وجل ان تنال اعجابكم .


سوف تقدم الحلقة الاولى لهذه الرواية غدا انشاء الله


اخوكم علي الساري

 دموع
 10:41 AM
 19.09.06
يا الله يا الساري بانتظارك وانتظار قصتك .

يبدو لنا انها سوف تكون مسلسل طويل حيث انك ذكرت بأنها سوف تكون على حلقات ارجو منك كل الرجاء بعدم الاطالة علينا وخاصة عن نفسي فأنا ممن يتأثر كثييييرا بالروايات .


لك مني الشكر والتقدير

 علي الساري
 10:58 AM
 19.09.06
الحلقة الأولى

اسمي غالب. مضى على يوم مولدي عقدان وبضع سنواتٍ وما زلت أعاني من غلبة وجودي المأزوم، دخلت السجن غير مرة ٍ، وأهم مرحلة في حياتي تلك التي قضيتها في دار الأحداث، حين شاهدوني بعد الثانية عشرة ليلاً أتجول بمفردي في ساحة "سعد الله الجابري" وكان عمري حينذاك أربعة عشر عاماً، قلت: كنت أتجول، أدور قالوا: كذاب رأيناك تتسول، "هل ُشبهت لهم؟!!".‏
في الدار كان يزورنا المرشد الاجتماعي يعطينا دروساً في الأخلاق وفي الحياة، كنت أبتسم وأنا أراه يتحدث عن الفضيلة والشرف، حتى ناداني ذات مرة:‏
- تعالَ، ما يضحكك ؟‏
خجلتُ من سؤاله وملتُ برأسي، مدّ يده نحو ذقني ورفع بأصابعه وجهي نحو وجهه وحدق فيّ ملياً ثم قال :‏
- بعد الدرس، أريدك !‏
عدت إلى مكاني وأنا قلقٌ متوترٌ " ُترى ما يريد مني ؟ وهل سيشكوني إلى مدير الدار ؟ لكنّ المدير لن يسمعه فهو يحبني ويقول غالب حساس و"شاطر" !‏
بعد الانتهاء من الدرس أشار بيده فتبعته وأنا مطرق الرأس وجل الخطوات، في غرفة الملاحظة جلست أمامه فسألني :‏
- ما اسمك ؟‏
- غالب.‏
- اسمٌ جميلٌ، ما تهمتك ؟‏
- تجولْ بعد منتصف الليل !!‏
حدق في وجهي مستغرباً ثم سألني :‏
- ماذا تحب في الحياة وماذا تكره ؟‏
أجبت :‏
- أحب الطبيعة والنقود كثيراً، وأكره البخيل والجبان، وأن ترشقني سيارة بماء الشارع، وأن أسمع كلمة مغضوب!!‏
نظر في عينيّ، شعرت به يغوص في البؤبؤ عميقاً ومن غير أن ترف عينه قال متابعاً:‏
- من تحب من أهلك، أقربائك، أصدقائك ؟‏
- خالتي أم جميل وصديقي عيسى.‏
- وأمك وأبوك وأخوتك وباقي الناس ؟‏
ساد الغرفة الصمت، هو ينظر في وجهي وأنا أتأمل الستائر والهواء المتسرب من النافذة، وبعد الدخول في دائرة السكوت، عاد يسأل :‏
- إذا شاهدت عاجزاً طلب مساعدتك ما تفعل؟‏
- حسب حاجة العاجز إليّ !‏
- إذا شاهدت مالاً وصاحب المال أزعجك ما تفعل ؟‏
- أسرق المال الموجود انتقاماً منه !!‏
كادت عينا الرجل تنفجران، وبضغطٍ على أعصابه التي صارت قلقة متوترة قال متابعاً :‏
- ماذا تحب في نفسك، وماذا تكره ؟‏
- أحب قلبي الطيب ولساني، وأكره أن أكون جباناً !!‏
- ماذا تحب في أبيك، وماذا تكره ؟ وماذا تحب في أمك وماذا تكره ؟‏
- أحب فيه شطارته في السيطرة على "الزبونة" وأكره اتهاماته الباطلة وأحب في أمي صمتها، وأكره تعظيمها للأمور!‏
- إذا تزوجت كم ولداً تفكر أن تنجب؟‏
- حوالي العشرين !‏
بدهشة ٍ واضحة النبرة سألني :‏
- لمَ؟‏
- كي أكون صاحب عشيرة !‏
- لمَ ؟‏
- ليدافعوا عني في صدّ المشاكل !!‏
- أتحب المشاكل ؟‏
-.......... .........‏
- إذا تمرد أحد أولادك عليك، ما تفعل ؟‏
- أطرده !!‏
- هل تحب أخوتك ؟‏
- فقط أختي فريدة !!‏
- لماذا؟‏
-.......... .....‏
- هل تخاف من العمل ؟‏
- لا !‏
- هل حلمت برئاسة مركز ما ؟‏
- نعم‏
- مثل ماذا ؟‏
- رئيس عصابة لسرقة الكروم، كما حلمت بشراء مسدس!!‏
شعرت من تحديقه في وجهي كأنه أراد صفعي على وقاحتي في هذه الجرأة المبالغ بها، لكنها حقيقة مشاعري وطموحاتي، هو يسأل وأنا أجيب من خلال معمل أفكاري الملتهب، ولأنه وجدني كنزاً ثميناً تابع الأسئلة :‏
- هل تحب العلم ؟ ولمَ لمْ تتابع تعليمك ؟‏
- أحب العلم وكنت أرغب في أن أكون ضابطاً بالجيش يؤدي العسكري التحية لي باحترام ٍ، ووالدي حرمني من المدرسة لأني رسبت في الأول الإعدادي !!‏
- هل تشعر بالنقص من شيء ما ؟‏
- أشعر بعدم وجود الرعاية والحنان في حياتي منذُ خلقت!!‏
- لمَ ؟‏
- لا أعرف !!‏
- أمنياتك ؟‏
- أن أكون أقوى مخلوق ٍ على وجه الأرض !!‏
- على من تحقد ؟‏
- على نفسي !!‏
- لماذا؟‏
- لأنني منحوس !!‏
- أي الزهور تحب ؟‏
- الياسمين !‏
- أي الألوان تحب ؟‏
- الأحمر !‏
- لماذا ؟‏
- لأن أصدقائي يحبون اللون الأحمر وينتسبون إلى نادي الاتحاد !‏
- هل تفكر في أن تكون لاعباً مشهوراً ؟‏
- لا، لا أفكر !!‏
- هل تقبل النصيحة وتعمل بها ؟‏
- لا !!!‏
وجعلته يطوي الدفتر ويهز رأسه مثل مصاب بداء الرُّعاش لأعود إلى حيث كانوا يجلسون أمام الشيخ الذي حضر ليعلمنا كيف نتلو القرآن.‏
*************‏
الآن أنا في السجن المركزي، جاءنا صوت المنادي:‏
إسماعيل، عدنان، غالب، مصطفى، وضعوا الأصفاد المعدنية في أيدينا، صعدنا إلى داخل سيارة شاحنة مغلقة، دخل معنا أربعة رجال من الشرطة، وأُغلق الباب علينا، لم أفكر بالهرب كما يحصل في الأفلام العربية والأجنبية، شعرت بالغثيان من رعدة الخوف، انتابت مشاعري الواهنة كآبة لصيقة لا تعرف الابتسام، وكيف تعرفه والقاضي لن يسمعني،لأنه سيقرأ ملفّ الدعوى أولاً، ولأنه لا يحكم على الناس من خلال مشاعره.‏
مساء البارحة كنت قوياً، استحضرت في ذاكرتي دفاعي عن نفسي أمام سيادته والحاضرين في قاعة المحكمة:‏
"- نعم يا سيدي، أنا المتهم. ولكني لست زعيم عصبة كما ورد في الملف!‏
أنا الطريد المطرود، أنا الذي حمل وزر أب كان صاحب عقدة!‏
اشتغلت معه في محل ٍ كان يملكه منذ الطفولة ؛ علّمني فن المساومة مع النساء بطريقته وحنكته لأكتشف بعد فوات الأوان سبب انزلاقي داخل وادٍ من السقوط أملس.‏
وادٍ لم أستطع الخروج منه ولا التحرر من سياج أشواكه التي أدمت مراحل حياتي كلها.‏
كان فيه نوع من الإدمان، ونوع من اللعنة، ونوع آخر من ضعف لاإرادي فقد قدرته على التفكير لأنه وقع تحت سيطرة ضعفٍ من نوع ٍ مهيمن ٍ !‏
كنتُ أنصرف من مدرستي و"صدريتي" على جسدي ومحفظتي فوق ظهري أمسك بها من خلال حزامين يدخلان تحت إبطي.‏
كان المحل صغيراً غرب جامع شبارق في حي الميدان وكان يجب عليّ فور انصرافي من المدرسة أن أسرع نحو المحل كي أغسل أرضه، وأمسح الغبار عن الرفوف، وأبيع الزبائن، أفرد وأطوي الملابس القطنية ذات المقاسات المختلفة، وأعيد ترتيبها من جديد مثل رجل حاذق ماهر!!‏
حين صمتت دواليب السيارة عرفت أنّا قد وصلنا، طالبونا بالنزول والأطواق الحديدية تطوق معاصم الروح.‏
غبشٌ تراقص أمام نظراتي التائهة، أغمضت عينيّ فتحتهما، زحام هائل يملأ الردهات صخباً وضجيجاً، ألف قلبي الذليل وأدخل القفص حين دخلنا قاعة المحكمة.‏
بعد ساعة من الانتظار اللزج صرخ الحاجب :‏
- الدعوى رقم ( 15 ) ؛ ودون أن ينظر القاضي في وجوهنا ومن دون أن يقول شيئاً ليرحم ذلنا، وبعد أن قلب الأوراق قال :‏
- تؤجل الدعوى مدة شهرين اعتباراً من تاريخه.‏
حينئذٍ أحسست أني أغوص داخل خندق ضعفي وانهزامي، خافض الرأس كسير النفس منادياً آهات الوجع المتغلغلة في أعماق الروح أن تلزم الصمت !.‏
حين عدت إلى الزنزانة، وجدت أن حياتي في داخلها لا تختلف عن حياتي في منزلنا. فأنا لم أعش طفولة حقيقية، رأيت نفسي مع أم ٍ ممسوسةٍ بالتنظيف، غارقة في شؤونها لا تهتم بأطفالها ؛ ووالد منهمك في حساباته بين الإدخالات والإخراجات، ما ينفك يوهمنا أن خسائره متزامنة بسببنا.‏
انبثقت آلامي تحكي عن قصة حياتي المحددة بالعذاب المؤلم الجارح، العذاب الذي جعلني أتوجس من الخوف، والخوف كان السبب الرئيسي في ممارستي للكذب والغش والخداع، تمركزت عتمة ُظلمه من صفعة أولى لكذبة أولى وقعت فيها مثل طعنة غادرة، ما غادرت عقلي لأنها بقيت محفورة على أفنان الروح المتكسرة تؤلمني بمرار إفرازات عصارات العلقم، والتي لم أستطع دفنها وما استطعت !!.‏
كان داهية، متمنطقاً بوسامة لا تقدر على كشف خفاياه، أوقعني في صيده وهو يبتسم قائلاً :‏
- سأشتري بضاعة بالجملة.‏
ولأني تواق إلى إرضاء أبي، فقد غردت روحي التي فرحت مثل تغريد البلابل في فسحة من طبيعة غنّاء "سيرضى أبي عني وسيفرح جيبه ". ومن أجل كسب هذه المودة، قلت بلا ترددٍ والبراءة تسطع من شفتيّ كما سطوع الشمس في فصل الربيع :‏
- تحت أمرك أستاذ.‏
اعترتني الغبطة وأنا أطوي له البضاعة بشكل أنيق ٍ ومرتبٍ رغم صغر سني، ولأني صغير السن، فقد أوصد أبواب عقلي الطفل عن التفكير بعواقب الأمور، حين أقنعني بهدوئه اللا مشكوك به أن أرافقه إلى حيث يسكن فالبيت قريب من المحل وفي نهاية الشارع !.‏
ما فعلته كان بالنسبة لي حدثاً رائعاً، فرصة العمر الذهبية فقد أردت من خلال ما فعلت أن أثبت لأبي أني رجل وسيد المحل في غيبته، وأستطيع تحمل المسؤولية، وملامح الرجل وأناقته تنفي الشكوك فابتسامته دائمة الوسامة، لهذا لم أرهبه وأنا أمشي إلى جانبه !.‏
أمام باب العمارة وقفت طويلاً، تحولت الدقائق إلى ساعات من الانتظار الصعب، وحين فقدت قدرتي على الصبر في انتظاره خاوي اليدين سارعت في الصعود إلى حيث أشار مؤكداً لي أنه لن يتأخر.‏
جبلٌ من حمم بركانية انهار فوق رأسي وطفرت الدموع من عينيّ رغماً عني من صهيل دقات قلبي الباكي بغزارةٍ، أين هو؟ كيف اختفى ؟ أية طامة آثمة وقعت في جريرتها ؟.‏
على منظري الحزين أبدى أصحاب الدكاكين المجاورة لمدخل العمارة أسفهم، فاقترب أحدهم مني وسألني :‏
- ما بك يا عم ؟ لمَ البكاء ؟‏
أجبته ونار الخيبة من خسارة لم تكن في ميزان الحساب تزيد من فتيل اشتغال الدموع في عينيّ وأنا أشهق :‏
- سرق البضاعة!‏
- من هو ؟‏
- لا أعرف! !.‏
الخوف يجعلني أروي للغريب صاحب الدكان ما حصل معي ولا أحكي لأبي، أخبرته بالقصة من دخول الرجل إلى المحل حتى وقوفي عند مدخل باب العمارة، حينذاك أمسك الرجل بيدي وصعد معي إلى الطابق الرابع، دق الباب بتكور أصابعه، كرر الطرقات بقوة، فتحت المرأة التي وبختني قبل قليل ٍ، وبانزعاج ٍ واضح النبرة، قذفت ببضع كلمات ساخطة كأنها تقذف بعظام ٍ من خروفٍ مذبوح ٍ إلى كلبٍ جريح:‏
- هذا البيت أصحابه في أمريكا منذ عشر سنوات، ألن ننتهي من هذا السؤال ؟ !. وأغلقت الباب بعنف ٍ.‏
تفحص الرجل الدرج، نظر نحو السطح، فهم ما حصل ودون أن أسمع ما قاله بعد أن نزلنا، غادرت الحارة، وأنا أمسح بكم قميصي مخاط أنفي، وثمة خوفٌ فظيعٌ ارتسم في عقلي المرتبك وأنا أتخيله يعاقبني!!.‏
كنت محقاً في خوفي فهو لن يسمعني، وكي أتخلص مما وقعت فيه فقد قبلت أن أقايض عقلي المرتبك على الخداع قبل وصوله على حين غرة والفزع يعتصر خلاصة قلبي.‏
" - ماذا لو حضر فجأة وشاهدني وأنا أضع علب الكرتون الفارغة محل البضاعة المسروقة، ما سيفعل بي ؟ أي عقاب ينتظرني؟ ".‏
كان لتأخره رحمة تنزلت من السماء كي تنقذني ووجهي البائس المعفر بصفرة الفزع الكامنة داخل أوتار روحي الممزقة كانت تتمنى الموت كلما تذكرت ما حصل معي وما سيفعل بي !.‏
حين دخل المحل، ارتجت الأرض تحت قدميّ الصغيرتين وحين رآني على هذا الشكل استفسر عن أسباب شحوبي فأجبته مرتعشاً وأنا أجتر الكلام بتوعك الخوف:‏
- بطني تؤلمني، لم أبعْ شيئاً، أيمكنني الذهاب ؟‏
وكأني سمعته وأنا أحمل محفظتي و"صدريتي" مثل الحمامة في وقت دنو أجلها يقول :‏
- اذهب من وجهي سأغلق المحل، سأعمل بسطة لبيع "الخيار" افتحا مشفى، هي الأخرى متعللة، الله يلعن الساعة التي جمعتني وإياكم!‏
ركضت مذعوراً وكلماته تطاردني، تلسعني، تخزني مثل شوك "افتحا مشفى، الله يلعن ال !"‏
دخلت المنزل لاهثاً، وجدت الضباب معششاً في أرجاء المنزل فعربد الظلام في داخلي، أمي وجدتي تتشاجران وقشعريرة باردة تسري في عروقي فأرغب بالتقيؤ!‏
تحرد جدتي وكعادة أمي في وساوسها من النظافة تندب حظها من نكد ما تفعله جدتي، لتعود من جديد تمارس جنونها في مسك الليفة والصابون من دون أن تلتفت نحوي أو تسألني :‏
- ما بك؟ لمَ أنت أصفر كالزعفران ؟.‏
في ذلك اليوم تكورت على الأريكة مرتجفاً من شدة الخوف، وأنا أسأل نفسي: " ماذا لو اكتشف أن العلب فارغة ؟".‏
فأتخيله قادماً نحوي والخرطوم في يده، ويد العم أبي حسن تربت كتفي :‏
- هيا، انهض، وقت الطعام !.‏


يتبع---------------

علي الســـــــــــــــــــاري

 دموع
 12:16 PM
 19.09.06
شوف يا الساري قلبي بيوجعني على الاطفال اللي بتعيش بهيدي الحالة

بالزمان عضو من الاعضاء لقبني بدكتورة نفسانية

وهلأ من بداية قصتك راح احتاج طبيب نفساني

الله يخليك ارحم الصبي من ابوه.

 ذيب الفرات
 11:06 PM
 19.09.06
تسلم ايدك اخوي علي
عدنا الى التشويق والاثارة
وبانتظار بقية القصة
تحياتي الك
 الشويطي
 02:41 PM
 20.09.06
شكراً لك
اختيار ممتاز وبإنتظار المزيد

تقبل تحياتي يابو حسين
 علي الساري
 05:52 PM
 20.09.06
اشكركم اخوتي على المرور.

واليكم الحلقة الثانية
--------------------



كان السجين أبو حسن يدعوني إلى الطعام، وكنت أناديه بعمي تلك الكلمة التي حُرمت منها وعذبتني كثيراً وأنا أفتش عن أسباب ضياعها في أسرتنا، واليوم الرجل السجين يطلب مني أن أشاركه الطعام الذي أحضرته زوجته، فأذكر أني في منزلنا كنت أتسلل إلى المطبخ لأتناول مما يروق لي أكله وهو داخل الثلاجة،لأننا كنا نسمع على مصاريف الطبيخ في بيتنا الشتيمة تلو الشتيمة من وجه طافح بالعبوس، وجدتي بعد أن تملأ معدتها، تسترخي على "الديوانة "، تمدّ رجليها وتتابع تحريضها من ناموس المحبة قائلة :‏

- ارحموه، الله يدبره.‏

كانت تشبه الحيزبون الساحرة، وكانت لا تتوانى عن التدخل في كلّ كبيرة وصغيرة كأنها سيدة سيدات عصرها، وحين تواتيها اللحظة المشتهاة، اللحظة الملائمة، والتي تفك إزار التلاحم الوجداني بين شريكين يفصل ما بينهما التودد والاتصال الروحي تندد بتشدق:‏

- طلقها، يكفيك القهر والمقت، وأنا أزوجك ست "الستات"! ما الذي يجعلك تصبر على شوك الصبّار، الأولاد لن يصيبهم مكروه، فكر في نفسك وفي شبابك الضائع !.‏

آهٍ يا جدة، أقولها بألم ٍ، ما أنا الرب كي أحاسبك، ولا أنا القاضي المسؤول عن جنايتك في التفريق بين والديّ كي أحكم عليك أو على أمي التي لم تتحمل غرورك وسيطرتك.‏

ابتعدتْ عنك صامتة ليرتفع الشرخ بينكما، وحين تركك تمسكين بمقود الطوفان غمرنا الحزن، وأنتِ تثرثرين بصوتك المتلون بما يفرغ شحنات حقدك وكراهيتك، لماذا كنتِ تكرهين أمي ؟ لماذا ؟ !.‏

كنت تخترعين الحكايات التي تسلب عقول الصغار، وتشتت أفكار الكبار، وكنت تسهبين في السرد لدرجة تفوق أمهر " الحكواتية "، كانت هوايتك، وسر نجاح ثرثرتك التي لا ترحم! كنت تشمين رائحة الشجار فتنتعشين وتنتظرين أن يصرخ والدي خلف أمي الراحلة إلى بيت أهلها:‏

- " درب الصد ما رد" !‏

ما كنت تنسجينه لا يشبه خيوط العنكبوت حتى! أرسمك في كل يوم ٍ، بل في كل لحظةٍ بملايين الصور، أمزقها، أعيد رسمك من جديدٍ فلا تخرج غير صورة واحدة ؛ امرأة من نوع ٍ لا تستحق أن نحترمها أو نطلب لشيخوختها الرحمة!!.‏

أنا نزقٌ، أعصابي متوترة، لأني أصبحت أتحدث عنك بهذه الصورة القبيحة، لكنها الحقيقة، والسر المدفون في صدر المغلوب على دنياه يجب أن يقرأ عالمه كلّ الذين يؤمنون بعالم الطفولة كي يحاسبوك أما قيل :‏

- ما أغلى من الولد إلا ولد الولد.‏

قتلت الفرح والأمان في طفولتي، والشريك والدي، وهل يمكنه ألا يكون موالياً لصلفك وسيطرتك عليه، وقد تركته بين يديك وحيداً، بعيداً عن إخوته وأخواته، بعيداً عن جده وجدته، بعيداً عنهم جميعاً، تتشاجرين وتخرجين!، وهو داخل أحشائك لم يولدْ بعد! وكنتِ لا تعرفين إن كان المولود ذكراً أو أنثى !!‏

أيعقل أن يكون الذي حصل معك من سطوة الجهل؟ أم من انشطار طبيعتك على الرضوخ أمام الرجل، أو أي كائن كان ؟ أم من تلك التي انتقلت إلينا كداء وراثي لا يمكن علاجه، عداوة "الكنة والحماة"؟.‏

كنتِ تحرقين قلوبنا وأنتِ تسردين القصة، قصة طلاقك من زوجك، كنت ِ تقولين أنك من الأيام الأولى، بل من الأسابيع الأولى اكتشفت بخله وشح نفسه والتي كانت السبب الرئيس في انهزامك إلى بيت أخيك تطالبين بالطلاق؟!.‏

ما أسهل هذه الكلمة على نفسك وما أقوى جبروت المرأة التي اغتالت فرح نفسها أولاً، ومن ثم ألحقته بنكدِ العيش مع زوجة ابنها بعد أن أرضعته من وخيم وهمها بالسيطرة عليه من دون الناس جميعاً ما أرضعته!.‏

أبي ضحية الرحم "المعفرت" وأنا ضحية وجودي وسط شرخهم، وإخوتي، وأطفال كثيرون تدفعون بنا نحو ريح الوقيعة الظالمة، لنعيش في حضيض الشوارع والطرقات بلا أخلاق وبلا رادع يمنع عنا الأيدي غير الأمينة التي تصيدنا بشباكها لتمضي بنا على هواها، كم طفلاً كنا في دار الأحداث؟ من سأل عنه أهله؟ من خرج بعدي من الدار ولم يعد إليها؟؟!.‏

صوت الصديق والشفيع لي عند زمرة الغاضبين الحاقدين يُوقظني ويُنبهني من شرودي قائلاً:‏

- ألن ننتهي من قصة الشرود؟ هيا، بسمل ومدّ يدك!.‏

كان صحن " الكبة النية " مرصوفاً رصفاً دقيقاً بطريقة فنية تثير شهية المعدة نحو الطعام، وحين أمسكت بواحدةٍ تساءلت:‏

- هل وضعت لها في قطعة "الكبة النية" تعويذة على الموافقة والقبول؟‏

لم تكن أمي تدرك مدى قدرتي على التخزين، فذاكرتي شديدة الحساسية ولاقطة من نوع ماهر، كانت تحكي لجارتنا أم عبد الله عن قصة زواجها بأبي كلما أحست بالضيق منه وبالعجز على مواجهته،وأنا بدوري وبحكم وجودي في المنزل كنت أجلس إلى جوارهما ألتقط كلّ حرف من حروف القصة!!‏

حين التقت جدتي بأمي في حمام السوق، وحين أعجبتها، تفحصت جسمها البلوري بقوامها الرشيق، وعينيها الخضراوين، وحين أبدت إعجاباً في إطراء سحر جدتي لأمي قامت بدورها على أكمل وجهٍ بعد أن هيأت الجو المناسب في مكاشفة جدي عن موضوع الخطبة والزواج.‏

أسئلتي الحيرى وجدت عنها كلّ الأجوبة يوم كبرت ووقفت عند دقائق الأشياء... أخزن... أحلل... أركب... لسانها الذي يقطر مثل شهد العسل وحنكتها المتميزة في إقناع الحاضرين أعطياني الجواب الأول، أما الجواب الثاني وهو الأهم فهو أنهم كانوا أمام قدراتها الشخصية مسلوبين !.‏

جدي عنيف وقاس، كلمته نافذة، وعلى الأخص عندما يطرق الباب خاطب له صفات أبي الفريدة !.‏

كان يعتقد أن زواج البنات يعجل بسترهن ليخلي نفسه من المسؤولية، والمصيبة أنهم حين تعرفوا على أبي أجمع الكل في مقولة تعزز وضعه أكثر :‏

- شاب وحيد لأمه، "لا وراءه ولا قدامه" لو كانت أمه نار ما حرقت وهو رجل يحب العمل، وهذا طلبنا !.‏

في هذه الحالات من الاضطرابات الاجتماعية علق أبي في رحم جدتي، وعلقت أنا في رحم أمي!.‏

وبدلاً من أن ُتزهر الزغاريد بأصدائها الرنانة الصادحة يوم ولادتي بعد وفاة ذكرين وأنثى، تحولت الغرفة إلى "تابوت" من نوع ٍ غريبٍ ومدهش ٍ، فالضيفة زهرية " خانم " صديقة جدتي تصرفت بلا مشورة من صاحبة البيت أمي وقتما نهضت وغيرت من مكان نومي ونهرت خالتي أم جميل التي كانت تحاول أن تلف جسدي بقماطٍ يجعلني متماسكاً، ليبدأ شجار أم ٍ نسيت آلام المخاض ولم تنس ما فعلته صديقة جدتي.‏

الراوي أمي والمستمع الحقيقي أنا، والحديث كان لأم عبد الله وليس معي، حينذاك كان عمري خمسة أعوام، خمس سنوات كان عمري، والكلام الذي حفظته يفوق سنين عمري بربع قرن على الأقل!!‏

في ظل هذا الجو المتلبد المشحون بالمشاكل والذي كهربته آدمية لا صلة قرابة تربطنا بها سوى هذه الصحبة مع جدتي كنت أرضع من ثدي أمي التوتر والقلق وربما الحقد كما رضع أبي من ثدي أمه !!‏

وكان عليها بعد هذه المشكلة أن تنهض من فراش النفاس مرغمة مكرهة إلى بيت جدتي تطلب منها السماح والغفران بعد أن تقدم ولاء الطاعة والاحترام!!.‏

الدار القابعة في زقاق الطويل، كانت واسعة، فيها ثلاث غرف ذات "حوش" كبيرة تحيط بها من كلّ الأطراف" تنكات الزريعة" التي أكلها الصدأ، وصديقات جدتي كن لا يغادرن بيتها إلا وقت إغلاق مواخير الليل، وإن اضطرت إحداهن إلى النوم فلا مانع يمنع، ولا عائق يعيق بقاءها، لأنها على شاكلة جدتي إما مطلقة أو أرملة! وعلى والدي أن يدفع المصاريف اللازمة وغير اللازمة، إضافة إلى فواتير الماء والكهرباء من دون سؤال! وإذا ما حصل نوع من التلميح إلى ضرورة الاقتصاد ما تنفك تثور فيسكت على مضض ٍ !!.‏

مع نمو هذه الأحداث ابتدأت أنمو، لأدرك بعض الأشياء المثيرة الهامة، والتي ما زالت عالقة في الذاكرة !.‏

كنت يومها ألعب بكيس النايلون حين سمعنا الطرق بعنفٍ على الباب، وبقسوة حادة كادت الجدران تساقط !.‏

في مكاني تسمرت وحين نهضت أمي سارعتُ إلى طرف ثوبها وأمسكت به، بينما تقدمت هي بارتيابٍ ووجل ٍ بعد أن حملت أختي الرضيعة وسألت :‏

- منْ... منْ يطرق الباب ؟‏

فتحت أمي الباب، عقدت لساني الدهشة حين رأيتها تقذف بنفسها على الأرض مثل نعجة أصيبت حنجرتها وهي تشد شعر رأسها بعد أن رمت بالحجاب على الأرض وراحت تضرب وجهها براحتي كفيها كأن كارثة عظيمة حلت!‏

هذا الاقتحام المرعب أجفل أمي كما أخافني، وفي هذه اللحظة المرعبة ومن تلك الصدمة المفاجئة هربت الدماء البيضاء من صدرها مما اضطر والدي إلى إصابته بلعنة تنضاف إلى لعناته في المصروف الجديد من شراء حليب " نيدو".‏

هذه الحادثة تركت الأثر المحزن الفظيع في مشاعر أمي نحو جدتي حين عرفت من توفى! أيعقل ما ذكرته أمي لجارتها ؟! ألا تذهبين لوداع أمك وهي في كفنها ؟! أي حقد ذاك الذي يستعر أوّاره في قلبك لتزاولينه في أحلك الظروف قتامة؟.‏

ماتت أمك - جدة أبي - وفي قلبها حسرة أليمة من تمردك وجبروتك ولؤمك.‏

لا أعتقد بل أجزم بعد هذا الحدث أن الكره قد تفاقم وأن البغضاء قد ازدادت، لينشق الطرفان على بعضهما من حالة اللامبالاة التي كانت تقابل بها أمي جدتي لتتسع مساحة الهوة بكل ّ مفاصلها السلبية نحو التأفف والمقت وزفرات الشكوى!!.‏

داخل هذه الجدران ووراء القضبان الحديدية تستيقظ آلامي الشاعرة بأحزاني حين يسأل أبو حسن :‏

- لماذا لا تأكل الخبز؟.‏

سؤال يسقط في روحي مثل بركان تفجره هزة من ذكرى متشحة بالسواد، وبوجوم الشارد لا أجيبه، فتداعيات الماضي بكل حرائقها تثير في نفسي تقززاً ساخطاً، فأؤثر الصمت على الكلام، وأنسحب إلى سريري، وذاك اليوم العالق في ذاكرة الطفولة ينبش الماضي، يعيد الصورة الدامعة، يفتح سطور الحكاية !.‏

كنت المسؤول عن شراء الخبز قبل الذهاب إلى المدرسة، وفي ذلك اليوم المشؤوم كان الخبز ساخناً، فمددته على الرصيف، وحتى لا أتأخر عن دوام المدرسة، جمعت الأرغفة على عجل ٍ وأسرعت إلى البيت، أسرعت إلى البيت لأجد أني ارتكبت جريمة بشعة، والله العظيم نسيت، خانتني ذاكرتي، نعم نسيت بقية "الفراطة" على طرف الرصيف، فماذا كان عقابي ؟ كان تأنيباً مقذعاً وضرباً مبرحاً، وصدى كلماته الجارحة التي حفرت أخاديد سكنها في أذني لا يغادر سمعي:‏

- ولا... ك... حيوان... ابن الكلب... أين البقية؟ هل خبأتها؟.‏

وفعلاً خبأت رأسي من بين صفعات يديه مثل يتيم جرده عدو مستهتر !.‏

وقد أوصى الله باليتيم، أما كان رسول البشرية يتيماً فرعاه جده عبد المطلب، وجدي طليق جدتي لا وجود لحنانه في حياتنا، وجدتي لا تطيق أمي تنفر منها وتتذمر وقتما تشاهدها قد أبدت ارتياحاً، فأين اليتم في كل هذا !!.‏

أهو في أمي الغارقة في مطبخها تولي الطناجر والصحون من اهتمامها أكثر مما يجب أن تهتم بأولادها؟.‏

أمْ هو في أبي صريع أرباحه التي يوهمنا أنها خسائر بسببنا ؟!‏

أمْ هو في هذه المشاحنات المتموسقة على قرع طبول تقديم الضحية إلى وحش الغابة في رقصة من موت الأمل فقصة الحرد عادة يجب أن نتلاءم مع طقوسها الدميمة حين تحمل واحدة من الاثنتين "بقجة " حاجاتها وتمضي!!؟.‏

في ذلك اليوم الملعون سألني رفيقي صبحي:‏

- ما بك؟.‏

ابتلعت غصة الدمعة التي حاولت حجزها في عيني وبانكسار ذليل قلت:‏

- بابا طرد أمي!!؟‏

انهمرت دموعي أمامه رغماً عن إرادتي فأخرج من جيب الصدرية منديله الورقي "المجعلك" والذي بدا لي أنه غير نظيف وقدمه لي كي أمسح دموعي التي خانت قوتي وبصوتٍ ضعيفٍ مجروح ٍ حدثته عن قصة الخبز والمبلغ الذي نسيته على الرصيف وما سبب لي هذا السهو !‏

ولأن أمي حاولت أن تدافع عني لترد يده القاسية ضربها و طردها !!.‏

اختنق الجواب في حلق الصبي فسادنا صمتٌ عميقٌ، وبعد الصمت تأبط بعضنا ذراع بعض، وبدأنا نمشي ببطءٍ كأننا نمشي في جنازة.‏

وصلنا الجامع، كان الوقت ظهراً وكان بابه مفتوحاً والمصلون يدخلون فرادى، وقفنا هنيهة نتأمل دخول المصلين كأننا ُنقر في ذاكرتنا شيئاً نعرفه ولا نمارسه !.‏

عند مفرق "الجابرية" وقفنا ننتظر الإشارة الضوئية، وقبل أن تفتح للمشاة الضوء الأحمر سارعنا في قطع الشارع جرياً إلى باب حديقة "ميسلون".‏

كانت الليرات الخمس ما تزال في جيبي، وحين تلمستها لمعت في ذهني فكرة!.‏

- تعالَ... نشتري "صياح" ونلعب!.‏

- أنا لا أملك نقوداً.‏

- أنا معي!.‏

- ولكنك قلت أنه ثمن الخبز ليوم غد!‏

- فلقة وما كانت!‏

في مساء ذلك اليوم خمنت أن تكون عقوبتي فلقة كتلك التي جعلت أمي تحرد!؛ لم أكن صاحب خيال جامح لأتصور نمطاً مخالفاً للنمط الذي تعودت عليه!.‏

من كرهت أمي وجعلتني أكره اسمها، جلست تندب حظها وحظ ولدها، مما أثار ضغينته نحوي، ربما كان يحاول ضبط أعصابه أكثر ليس من أجلي بل من أجل نفسه، وعكته الصحية بدت واضحة الملامح...كح... كح "آتشوم".‏

ورغم عطاسه المتواتر وكحته الحادة، فقد أحضر كرسياً ووضعه في الشرفة ثم أمسك بيدي وطالبني بالجلوس عليه، ثم ربطني بواسطة حبل غسيل وتركني في دكنة الليل أعارك البرد وصفير الريح حتى أقرست البرودة أصابعي فبدوت مثل أسير حكم عليه سيد من أسياد الجاهلية لأنه ارتدّ عن عبادة الأصنام!.‏

كانت المداخن على السطوح المجاورة والمقابلة لسطح بيتنا مع هوائيات التلفزة ترمقني، أحسست بها بشراً تخاطبني ترثي حالتي النكراء والدخان المتصاعد من فوهات المداخن يتراقص أمام عيني مثل أشباح أطيافها لا تخيفني لأنه سرعان ما كان يتبدد في جوف الظلام والغريب في هذه الليلة ما تراءى لي أن الدخان يتحول إلى دموع ٍ مسافرة إلى حيث يبكي القمر فمأساة الطفل قد بدأت!‏

بعد منتصف الليل فتحتْ باب الشرفة جدتي وأقبلتْ كي تفك وثاقي وهي تدمدم:‏

- الله يصلح الأمر، ما كان لازم تكرر الغلط!.‏

دخلت إلى الصالون الصغير وأنا أرتجف من شدة البرد والخوف كان نائماً، سمعت صوت شخيره، كثيراً ما كان شخيره يعلو، وكثيراً ما أبدت أمي انزعاجها من صوت شخيره وتركته بمفرده واندست بيننا في الفراش، ولكن ماذا أصابني بعد أن دخلت الغرفة ؟، أنا أسعل وأعطس وهذا السعال مع العطاس أقعدني في الفراش بضعة أيام بعد أن ارتفعت حرارتي وأثرت على معدتي التي بدأت تلفظ كلّ ما أتناوله من طعام أو ماء، حينئذٍ أخبرته جدتي بسوء صحتي فأخذني إلى الطبيب من دون أن يقول شيئاً، أي شيء يجعلني أحسّ أنه أبي، هو لم يسأل والذي سأل عني رفيقي صبحي، وما إن فتحت الباب جدتي ورأته في وجهها حتى صاحت به مثل عفريت خرج من شق حائط:‏

- اذهب من هنا يا وجه البلاء والنحس.‏

رغم عدم تماثلي للشفاء سمعت وقع أقدامه تقعقع على السلالم مثل مجنون ؛ وما إن تماثلت إلى الشفاء، وعدت إلى المدرسة ودخلت الصف، حتى انتعشت روحي من كلمات المعلمة:‏

- معافى يا غالب، مكانك في المقعد شاغر لا يشغله سواك.‏

كنت أرى في وجهها ما أبحث عنه، دفء غامر في وجهٍ باسم ٍ يشع حيوية وحناناً، أذكر أن صوتها كان ينثال في قلبي الصغير مثل لحن ٍ شجي ٍ، وحين تمسك بأصابعها " الطبشورة " لتكتب على السبورة تغمض عيون ذاكرتي عن مشاكل البيت وقصة الحرد وحكايات الثرثرة التي لا تنتهي، وتفتحها على تلقي المعلومات، ولولا خوفي من تجريم تلميذ لا يقصد إساءة لقذفت بنفسي بين أحضانها باكياً ألتمس بعض حنان افتقده وافتقدته!.‏

ما أجمل هذه الذكرى، وما أجمل أن تبرع في كتابة موضوع تعبير وتجده معلقاً في مجلة الحائط بعد أن أثنت الإدارة على جهدك في التفوق!‏

نعم كنت من أفضل التلاميذ الذين يتقنون فن التعبير وكانت علامتي دائماً العلامة المثلى، وفي البيت والمحل لا أسمع غير " ولاك تعال، ولاك حيوان ابن الكلب " وثرثرة "الحكواتية" عن طلاقها وكرهها لأمي حتى طوى العام الدراسي حقيبة السفر؛ وحصلتُ على وثيقة النجاح للمرحلة الابتدائية بتقديرٍ ممتازٍ.‏

كما توقعت لم يفرح والدي بحصولي على درجةٍ في تفوق ٍ، ولم يكن راغباً في تسجيلي بالإعدادية، كان كلّ همه أن أتعلم مصلحة، لكنه أمام إصرار أمي التي أعادتها إلينا عمتها وإلحاحي على متابعة التعليم فلقد وافق كارهاً.‏

اختار موقع مدرسة تقع في منتصف الطريق، واحد يؤدي إلى منزلنا والآخر إلى محلنا؛ وحين رجوته :‏

- بابا، الله يوفقك رفاقي سجلوا في إعدادية الحكمة وأنا أريد أن أكون معهم.‏

أجابني بتهكم ٍ شديد اللكنة:‏

- من أجل "الفلت" يا ولد، هنا أفضل، أنا أعرف مصلحتك أكثر منك !‏

وافقت مكرهاً، وكما يفرح الأطفال بملابس العيد فرحت باللباس الجديد، بذلة فتوة بلونها العسكري الجميل، وكطير تلونت أجنحته كنت أقطع الشارع بسرعة، ربما لأني بدوت أنيقاً، وربما لأني أحسست بدخول مرحلة جديدة في عمري.‏

وكان عليّ أن أتأقلم مع هذا الوضع، وفعلاً حاولت التأقلم ولكنْ من حوّل غالب التلميذ الخجول إلى تلميذٍ مشاغبٍ يميل إلى الفوضى والاندماج مع الذين يخلقون البلبلة وقت تبادل المدرسين!‏

المرحلة كانت جديدة عليّ وصعبة، وأكثر الوجوه كانت غريبة عني، ما بدأت أمارسه وما كنا نفعله يغزو ذاكرتي، يفتح الصور العتيقة التي لم يطمسها بعدُ زمني الأسير، بشعرها الناعس الدامس والذي كان ينوس على المنكبين كانت تدخل علينا وهي تبتسم تلك الابتسامة التي كانت تثير شهوة الطفولة إلى تقليدها حين تنطق :‏

oh---pleas---puplis.‏

كنا لا نصغي إلى الدرس بقدر ما كنا نتأمل قوامها الممشوق وأناقتها الجميلة التي ُتفرح القلب لتبدأ شقاوة المراهقة ونحن نتأمل في أصابع يدها اليمنى وكيف كانت تنفخ الدخان، الذي ابتدأنا ننفخ دخانه في مراحيض المدرسة!.‏

كنا بحذر نراقب الساحة من عيون لجنة الانضباط المدرسية وخاصة في دورة المياه، حتى فضحنا ما أسميناه نمّام بدل تمام.‏

يومها ساقونا مثل البهائم إلى غرفة المدير، الموجه ولجنة الانضباط، ومع إصرار المدير على العقوبة بالفصل، كان لابدّ من إحضار أولياء الأمور.‏

الذي آلمني وجعلني أنضم إلى زمرة المنتقمين هذه النظرة الشزراء التي رسمها في ذاكرتي لحظة رمقني بها ذلك الخبيث نمام.‏

كنت قد انضممت إلى الشلة، شكلنا حوله دائرة وبدأنا نضربه حتى تدخل بعض من المارة ففرقونا عن بعضنا وهم يلعنون سوء التربية وما آلت إليه شوارعنا، فابتعدنا كلّ واحدٍ منا يجر أذيال خيبته من الخوف الذي خامره !‏

كالعادة كانت أمي حردانة كما تعودنا! وكان عليّ أن أذهب إليها كي أستعطف قلبها الغافي عن طفولتنا راجياً أن تتدبر الأمر قبل أن يعلم والدي.‏

في بيت جدي رجوتها بثغاءٍ من دموع ذرفتها عيناي ألا تدعني بين يديه أضرب، وبعد أن قبلتُ يديها ورجليها وأنا أبكي، رفَ قلبها وهمت عيناها بالدموع فقرصت أذنيّ ومسحت دموعي براحة كفها قائلة:‏

- توبة، قل توبة لن تكرر هذا.‏

- والله العظيم توبة.‏

في هذه اللحظة من هذا اليوم المشؤوم تسربل في عميق روحي حقد غريب كحقد البركان على الأرض، رفض خالي تدخل أمي، ووقف جدي مثل حائط مهترئ يخشى على نفسه من الانهيار يؤازر خالي، وهذا ما أشعرني نحوهما بنفورٍ تام ٍ، لكن أمي رغم ضعفها وانكسارها وقفت بعد أن تحزمت بإزار القوة، قوة الأم التي تردّ عن ولدها كيد الأحقاد في كسر شوكة الخؤولة، وقفت لتقول وبجرأةٍ غير معهودةٍ:‏

- لا علاقة لأحد بأولادي، وسأذهب إلى المدرسة.‏

في المدرسة تعهدت أمي أني لن أكرر هذا، ولسوف تشكوني إلى والدي المسافر الآن إلى (الشام) تقصد دمشق من أجل شراء بضاعة جديدة للعيد.‏

المسكينة كذبت عليهم، أوهمت المدير والموجه أن والدي مسافر فاكتفى المدير بتعليق توبيخ ٍ في لوحة الإعلانات بعد أن اعتذرتُ متأسفاً حين قبل المدير بكلام أمي التي أكدت له أنها ستهتم بوضعي وتراقبني.‏

بعد يومين تدخلت عمة أمي في عودتها إلينا؛ وبين ظلال الأيام والأسابيع الراكدة زعق في وجهي كمن مسّه كهرباء وهو يقرأ علاماتي المتدنية عن الفصل الأول.‏

لم أرتبكْ من معرفته، ولم أحترْ من أين عرف، لأن موجه المدرسة والذي أصبح زائراً للمحل بين آونة وأخرى، لم تكن زيارته عن طريق المصادفة فهو وإن توسط لي عند المدير في قبول اعتذاري وتعهد أمي فذلك لغاية في نفسه نبتت فجأة حين سمع بملكية والدي لمحل يبيع فيه الحاجات الولادية وبعض الحاجات النسائية، لأنه من يومها ابتدأ يتردد على المحل، يأخذ ما يلزمه من احتياجات أولاده وزوجته تاركاً الدفع لأول الشهر.‏

مستغرباً ومستهجناً تساءلت سراً عن سبب سكوت أبي على تستر أمي، لماذا لم تقمْ قيامته التي تعودنا على قيامتها في ثورةٍ من وعيدٍ ؟! هل هناك ما يخفيه ؟ أمْ أن أمي أخبرته في غيابي عنهما ونالها من تجريح ٍ تعودت عليه ما نالها ورجته ألاّ يثير ضجة حول الموضوع كي أنسى موضوع السكائر ولا أعود إليه!.‏

يتبع-------


علي الســــــــاري

 الشويطي
 10:25 PM
 20.09.06
بإنتظار الحلقات القادمة

وبالمناسبة حلمتلك حلم يالساري

وانشاء الله يكون حقيقة

حلمت انك صاير مشرف قسم القصص والروايات

تقبل تحياتي
 علي الساري
 03:56 PM
 21.09.06
شكرا اخي الشويطي على مرورك
وشكرا على الحلم

الحلقة الثالثة
-----------------


في هذه الحياة التعيسة كان لا بدّ لي من إيجاد صديق يؤنس وحشة الفراغ، فالمحل كان يحتاج إلى شخص ٍ أكثر وعياً وأكثر إدراكاً لما يحصل من ردود أفعال مع بعض الزبائن الذين يستاؤون من غلاء الأسعار بعد بعثرة العديد من الملابس الولادية، وكان يترتب عليّ بعد خروجهم أن أعيد كلّ شيء إلى مكانه!.‏

وبحثاً عن صديق لا يشي مثل نمّام فقد كنت أنتظر قطة أمام باب المحل تناديني بموائها العذب الرقيق، قطة وليس قطاً فالقط يأكل أولاده والقطة تفرُّ بنفسها بعيداً لتضع صغارها وترعاهم حتى يكبروا، حينذاك تعود إلى قطها، ولأنها تعودت أن تراني وحيداً كانت تجلس على قوائمها بشموخ ٍ وهي تنظر في وجهي بعينين تلمعان كأنها تخاطبني !.‏

كنت ُأغبطها على حريتها وممارستها طقوس التجول بين حواري وشوارع الجامع الفرعية، وكنت أتمنى بغفلة عن العالم أن أتحول إلى قطٍ مثلها أجري من مكان لآخرٍ، بلا رقيبٍ وبلا منكدٍ، وبلا سوط جلادٍ!‏

وأنا في بحبوحةٍ من سديم الخيال جاءني والعقدة تزور حاجبيه وكعادته سأل:‏

- هل بعت شيئاً؟.‏

ولأنه كان على يقين ٍ أن حركة ركود الأسواق ليست شخصية ولا محلية فقد اشترى جهاز " فيديو " واستأجر عدداً من الأشرطة لأفلام بوليسية واجتماعية وكما كان مكتوباً على واحدٍ منهم - " كومندوس " للكبار- بعد أن أغلق المحل وذهبنا إلى البيت يحمل الجهاز على صدره بكلتا يديه وأنا أحمل كيس الأشرطة !.‏

على حدّ زعمه هذه الأفلام توقظ الخيال، وتهدئ النفس، وتغذي الفكر إضافة إلى القضاء على الملل، هكذا قال لجدتي.‏

فرحنا بدخول السينما إلى بيتنا وجلسنا صامتين نتفرج نتابع المشاهد بعيون ٍ واجفةٍ ترف أهدابها مرتعشة كلما شاهدنا قتيلاً يتضرج بدمه، فالحرب النازية تثير الخوف والتقزز، والنازية كلمة واحدة في عددٍ كبير ٍ من أبواب التعدي والتحدي والتردي.‏

بعد الفيلم الحربي، وضع فيلماً سياسياً، إذا لم تخن الذاكرة قلمي كان اسمه /المحترف/، ولم يكن أقل شأناً من الفيلم الأول.‏

صراع الساسة على السياسة أمرٌ مخيفٌ، والأمر الأكثر إخافة وإجهاضاً لأعصاب الطفولة هذه الهياكل التي كانت تخرج من القبور وهي تقهقه مزمجرة وسط الظلام بأصوات ضاجة صاخبة واللون الأزرق الغامق كان يتماوج مع الحركة الدامية!‏

كنا مثل تماثيل جامدة يُمسك الخوف بخناقنا أيمّا إمساك حتى بالت أختي فريدة على البساط ولم تنهض إلى الحمام إلا وأمي تسحبها من يدها وهي تلعن بخفوتٍ مكبوتٍ هذه الجلسة حتى صرخ فينا :‏

- هيا إلى النوم!.‏

بعد هذه المشاهدات المثيرة للأعصاب تلبسني الأرق وتفتحت في داخلي مشاعر مبكرة في أن أكون صاحب سلطة أحكم، لا أحاكم أعجبتني مواقف انتصار البطل !.‏

وحتى أكون بطلاً حقيقياً لا بطلاً أسطورياً فقد أكدّ والدي في طلبه هذه المرة على ترك المدرسة بعد أن كان ما ينفك يردد:‏

- ماذا ستصبح، مهندساً، طبيباً، معلم مدرسة مثل موجهك؟ وإن أصبحت طبيباً من أين لك أن تشتري عيادة ؟‏

استغل الزمن، تعلم صنعة، زميلك صلاح كسب الوقت وعما قريب يصبح معلماً تبحث عنه أكبر "ورشات" المدينة!.‏

هذا التحطيم جعلني أبحث عن تعويض ٍ آخر أثبت من خلاله قدراتي، وقدراتي آنذاك كانت قد بدأت تتجه نحو عواطفي التي تبرعمت قبل الأوان على نظرات بنت الجيران وهذه اللهفة الملحوظة حين تراني.‏

ولكي أكون جديراً بهذه النظرات، امتدت يدي إلى درج الغلة !.‏

أجل امتدت يدي إلى درج الغلة، لم تكن المرة الأولى، لكنها من أجل شراء كتاب رسائل العشاق كانت الأولى! اخترت رسالة راقت لي كلماتها، نقلتها بأمانة، ورسمت أسفل الصفحة قلباً زينته بزهور من رسم يدي، لونتها بالأحمر والأصفر، وطلبت من أختي فريدة أن تسلمها سراً إلى بنت جارتنا أم نوري!‏

من هنا ابتدأت أحاسيس عواطفي ومشاعري تقودني إلى الإدمان على مدّ يدي إلى درج الغلة والنداء الخفي يبتر كلّ تأنيب "مع هذا الصنف من الآباء‏

لا ينفع التعفف، خذ ْ، عشْ كما تريد أنت، لا، كما يريد هو!".‏

هذا النداء من هذا الطغيان أصبح قريب الشبه من عواء الذئاب وقتما تجوع، الحرمان يتمرد على الخوف، مصاهرة الأفلام تنفي وجود دارس ٍ يسعى نحو مستقبله، فأنعطف نحو الكسل!.‏

ومن الطبيعي أن يجعل الموجه من كسلي نافذة تجعله يعرض على أبي أن يعطيني دروساً خصوصية !‏

تخيلت وجهه وقد فرت الدماء منه بعد أن باءت أحلامه بالفشل! البائس لم يكن يدري أن والدي أكثر حنكة وفراسة منه للتملص من مسؤولية مصاريف مدرستي، والأهم من هذا كله أنه غير مهتم بتعليمي كان يأمل أن أترك المدرسة وأن أنصرف إلى تعلم صنعة كي أعينه على مصاريف البيت التي أنهكته كما كان يردد على مسامعنا، والغريب الذي حدث أن والدي قد تذكر أخيراًَ أن تستر أمي على قصة التدخين في المدرسة حطم وعيه لهذا حين عاد وقت راحته في فترة الغداء صرخ في وجهها :‏

- كله منك، ينقصني واحد حتى تكمل خسارتي، آخر يوم سأغلق المحل وأجلس مثل"الحريم" في زاوية البيت، وموتوا من الجوع !.‏

أمام ذلك التجريح تنسفح دماء أمي وتنزوي في مطبخها وهي تمضغ بلوى أحزانها المنطمرة في صدرها كأنها تقول:‏

- منك، أمْْ من أمك، أمْ من الأولاد؟.‏

ولأن جدتي كانت موجودة، ولأنها كانت تبحث عن ضالتها في إشعال فتنةٍ، وبدلاً من أن ترطب الجو في ودّ من تسامح ووئام، ترمي بسهام كلماتها لينفجر صوت أمي مخترقاً حالة السكون الملتهبة:‏

- أنا صابرة من أجل الأولاد!‏

- "دخيلك"على"إيش" صابرة؟ تردد جدتي.‏

ولأن أمي تعودت على الحرد وما عادت تحتمل كيّ التسلط الأجوف فطوق الصبر انفرطت حباته تصرخ بصوتٍ عال ٍ :‏

- أتريدين أن أترك لك الجمل بما حمل؟!‏

- لا والله أنا من سأترك لك الدار ومن فيها!‏

يا فريد تنادي ابنها :‏

- والله لو كان بيتك كعبة مشرفة ما عدت داخلة عليه "وجوه كالحة ومياه مالحة "... يا الله... " يا بيتي يا بويتاتي... يا مسترلي عيوباتي!".‏

وتخرج مثل قنفذٍ تحجرت أشواكه!.‏

يتبع-------
علي الساري

 الشويطي
 08:53 PM
 21.09.06
كمل يالساري شوقتنا للنهاية
 دموع
 11:49 AM
 23.09.06
والله انو معاك حق يا الشويطي

بالنسبة الي من قصة ام الجماجم وبيني وبين نفسي سميت الساري بالراوي او الكاتب او الأديب لمنتدى العقيدات .

فالساري يأتينا بالجديد المصحوب بالشوق والاثارة .

ويمكن مسيو الساري بالآخر يطلع مخرج سينمائي


يعطيك الف عافية يا الساري

وياالله فرجينا همتك بس لا تطول علينا ما تنسا احنا صايمين والحمد الله

مش تقهرنا



دموووووع

 علي الساري
 12:07 PM
 23.09.06
يسلمو يالشويطي على المرور
ويسلمو يادموع على احساسك النبيل
وانشاء الله هذه المره ماراح اطول عليكم.

الحلقة الرابع
------------------


معاملته السيئة وأدت قناعتي في بعض ليرات كنت أدسها خلسة في جيب بنطالي، ولأن الإحساس بالقهر وبالظلم قد دفعني إلى مدّ يدي حين أشعر بالحاجة الشخصية، فقد بدأت أفكر بما هو أكبر من ذلك بكثير!.‏

ورغم شكوكه التي ساورته غير مرةٍ، كانت أكاذيبي المفتعلة تجعلني أخرج من خرم الإبرة حتى وقعت في شرك غلطة العمر!.‏

بعتُ سيدة أنيقة وجميلة بعض أشياء من بينها قلم أحمر الشفاه وقلم أسود لكحل العين، لم يكن يخطر في بالي أن المرأة ستعود تريد استبدالهما بعد أن أخفيت الثمن في جيبي، وحين عادت تريد أن تستبدلهما، كان حاضراً فانكشفت سوءة ما فعلت!.‏

وجدت نفسي، بعد خروجها، بين يديه مثل حيوان يتلقفني حائط المحل، وغصص من دموع متحجرة ازدحمت في حلقي، لتسقط المفاجأة التي أنقذتني، تبددت ملامح الرجل الساخط بغضبه المريع إلى بشاشةٍ أذهلتني، فرْحْتُ أحدق في وجهه أكثر من كل مرة، "من هذا الرجل ؟ " إنه يقول وبهدوءٍ: - بابا، إذا ممكن تشتري " كازوز".‏

غرقت في محيط من القهر، كنت غريقاً وأنا على سطح الأرض أتنفس، وقيعتي بين يديه انحفرت في تلافيف الذاكرة مثل شامة مرضية لا تعني الصحة أبداً.‏

إذن تدعني وشأني حين تدخل صاحبتك المحل، هذه الفتاة الشقراء استحوذت على كلّ ما فيك، أتحسبني غبياً لا أفهم في هذه الأمور ؟.‏

وحين تخرج يلبسك شيطان الانتقام، ملامحه، شيطان القبور يشبه ملامحك الآن، أسمع صوت قهقهاته، اللون الأزرق يتحول إلى سوادٍ مشوبٍ بالزرقة، ماذا تقول ؟ سأعمل أجيراً عند الكهربائي أبي بكري وتلك الشقراء ستحل مكاني " يا لرحمة الشقاء !".‏

بضع دقائق مرت كأننا غرباء لا نعرف بعضنا حتى انسلت خطواتي بعد أن غادرت المحل في أصيل حي الميدان وئيدة، وئيدة أصبحت ألف وأدور في الشارع ذاته من غير أن أعرف ما أريد وعما أبحث حتى تعبت!.‏

في البيت كان إخوتي ينامون على الأرض بلا غطاءٍ وبلا فراش ٍ وأختي فريدة متكورة مثل حمامة ورقاء حزينة! راعني المشهد، كادت دموعي تتساقط، كان قلبي ينبض بارتعاش ٍ باردٍ !!‏

أيقظت أختي بهدوءٍ :‏

- فريدة، فريدة انهضي، وحين فتحت عينيها فركتهما ونظرت في وجهي ثم نهضت من غير أن تقول شيئاً.‏

ساعدتها على مدّ الفراش ووضع "المخدات"، حملتهم واحداً واحداً إلى الفراش، ما أذكره عن الليلة تلك أني كنت شبه نائم، وفي الصباح تأملت الوجوه، كانت فريدة مثل ملاك طاهر فردّ خصلات الشعر على "المخدة" فاحتوتها، اقتربت منها همست برفق ٍ :‏

- فريدة... انهضي.‏

فتحت عينيها وبخفوتٍ واضح ٍ قالت :‏

- صباح الخير.‏

- صباح النور.‏

أورثني استيقاظهم متوعكين من الكآبة والحزن على ترك أمي البيت بعد شجارها مع أبي حين خرجت جدتي شعوراً بالكره نحوها هذه التي تتركنا ولا تجعلنا نشعر بمعنى الحنان والهدوء والأمان، واحدة مثلها لا تستحق أن تكون أماً!!‏

فتشتُ عن علبة كبريتٍ فلم أجدْ، طلبتُ من ناجي أن يسأل جارتنا أم نوري التي ما إن سمعت بحاجتنا إلى علبة الكبريت حتى سارعت إلينا وهي تدمدم ببعض كلمات خافتة عن حرد أمي !.‏

وفي غوص معاناتي داخل جدران أحزاني التي تؤويني وإخوتي جعلتني أشعر أني أكبر من عمري بسنواتٍ، وجعلتني أحس أنها أكبر من عمرها بسنواتٍ !.‏

كانت نظرات عينيها تثيران في نفسي عالماً بدأت أحلم به وأفكر في كيفية الدخول إليه، كنت أحس بهذه المشاعر تريد أن تفيض على العالم بالجنى وأنا أرمق صدرها الناهض بإعجابٍ فأقرأ الانشراح على وجهها لحظة أحدق في تكور نهديها الصغيرين الذين بدأا ينموان من تحت "البلوزة" الضيقة!‏

والذي كان يثير دهشتي جرأة نوال حين تختطف قبلة سريعة من خدي بعيداً عن وجود أمها وتتوارى مثل فراشة كانت لتوها موجودة ثم اختفت!.‏

في ذلك الصباح عملت جارتنا أم نوري على تنظيف الأواني وكنس الأرض ومسحها تساعدها أختي فريدة، وبناءً على ما طلبته جارتنا أنزلتُ كيس الزبالة، رميته قرب الحاوية، ولم أدفع به إلى جوفها، فاشتممت رائحة عفن عطن قريبة الشبه من رائحة نفسي وأفكاري، تابعتُ طريقي نحو محلنا بتلكؤ مقصود، فهو ليلة البارحة لم ينمْ معنا، ترى أين نام !.‏

وبدأت أخمن، ربما كان عند أمه، وربما كان عند واحدة من فتياته الشقراوات، أو ساهراً عند واحدٍ من أصحابه يلعبون الورق، فجأة هذه التخمينات توقفت !.‏

حين شاهدني انطلق من داخل المحل بسرعة والعقدة المرسومة على حاجبيه لا تفارقه، والتي اقترنت بلهجته القاسية:‏

- لمَ تأخرت، ألمْ أقلْ لك لا تتأخر، هيا امض ِ معي !.‏

أغلق باب المحل وقفله بالمفتاح، فتبعته مثل جروٍ جريح ٍ ساكتٍ عن النباح، ووقفت أتزود بالصور الجديدة.‏

تصافحا، تحاورا ببضع كلمات عن أحوال السوق، ثم دعاه الرجل إلى فنجان قهوة فجلس، شرب القهوة، وضع الفنجان على الأرض، والتفت ناحيتي وبنبرته المتسلطة:‏

- افتح ذهنك واسمع الكلام، لا أريد شكاوى ولا مشاكل أتفهم!!.‏

تركني ظلالاً متكسرة ومضى، تركني ظلالاً تئن ليكبر مقت وحقد من جعلني مسوراً بعفونة الإنجاب وألف غمامة من الغمّ والأسى تلّف روحي، ومن الطبيعي أن يجعلني هذا الموقف رافضاً كلّ الرفض أن أكون أجيراً للأجير، فمنذ اللحظة الأولى حاول استفزازي بفرض أوامره عليّ:‏

- اغسلْ فناجين القهوة وتعالَ ساعدني.‏

كان أبو بكري خارج الدكان يدخن سيكارته وهو يتراهن مع جاره السمان عن سحب اليانصيب، وحين سمع صوت صرخة في أنة صادحة سارع نحونا!.‏

رميت بالمفك نحو وجهه فأصابه جرح بسيط في خده دمى بعض الشيء، فصرخ أبو بكري في وجهي:‏

- يا بن ال-- ؟!‏

وابتلع ما كان سيقوله، وأنبأني أنه سيشكوني إلى والدي!.‏

الأشقياء لا يُِكذبون أخبار بعضهم، فسرعان ما جاء المسيطر على حياة ولي العهد، جاء ساخطاً، غاضباً، وفوق كلّ هذا وذاك لاعناً يوم ولادتي، يسبني في مقتٍ من بغضاء ويشد أذني في تقزز، كأني لست ولده، فأقرأ تباشير ابتسامة شامتة مازلت أذكر وهج انتصارها في أجواء روحي المعذبة!.‏

ومن بادلتني مقام الرئاسة في المحل ترفض وجودي في فترة الغداء ووالدي يختم على رأيها بالشمع الأحمر، فكل شيء من حقه، المحل، البيت، الأولاد، النساء، وزهرة الربيع المقطوفة الكرة في يدها !.‏

في نهاية الأسبوع جئته فارغ اليدين لم أقبض أجراً، اكفهر وجهه وبلهجة سافرة عن كوامنه المادية الرديئة قال:‏

- تستحي عينه من عيني، على الأقل تشجيع، ناس ما في ذوق !.‏

ضحكت نفسي في داخلها بصمتٍ، كادت ضحكتي تصدح بنذير شماتة وسخرية:‏

" ألم تتخذ قرارك بتعسفٍ من جشع الذئب وطمعه الراقص في داخلك أن أترك المدرسة، ما قالته معلمتي، أني ربما أكون في يوم من الأيام ذا شأن في مجال الأدب إن تابعت تحصيلي الدراسي وقُيض لي الظرف المناسب، أنت لم تسأل لتعرف أني كنت الأول في المدرسة والمتميز الوحيد في كتابة مواضيع التعبير.‏

قتلت المستقبل، قتلت فرحة الغبطة من النجاح الذي حققته يوم أحضرت تقدير نجاحي بترتيبٍ ممتازٍ، وبوحي ٍ من أناك المسيطرة تركتني أهدر الوقت أمام أفلام "الفيدو" من دون أن تسألني:‏

- هل انتهيت من واجباتك المدرسية ؟.‏

والأكثر أهمية من كل هذا أن أكون بين يديك مثل عامل تنظيفات مطيع، ومطيع جداً لسادته في قطاع النظافة، واليوم آتيك حاملاً في يدي نتيجة الرسوب، وحيداً أحمل نتيجة الرسوب، وحيداً أبكي، ما عاد في مدرسة، من البداية عارف ما مصيرك، تمديد الكهرباء تُدرّ ذهباً، تعلمها !.‏

والآن تسألني ما أعطاك ؟... ناس ما في ذوق... اّ... تستحي عينه من عيني، لأفقد الرهبة من أنك أبي!.‏

ويأتي المساء محملاً بالصمت ويعود المتخاصمان إلى بيت الأحزان كأنهما غريبان لا يعرف أحدهما الآخر!.‏

ونحن نصعد الدرج فوجئنا بجارتنا أم نوري، كانت واقفة تنتظرنا وبهدوءٍ قالت المرأة الغريبة :‏

- أبا غالب، الله يرضى عليك، أم غالب فوق أحضرتها أنا، حرام الأولاد مالهم ذنب وأنت ابن ناس وبتفهم بالأصول.‏

هزَ رأسه وابتسم في وجهها بمكرٍ كي ينفي الشكوك عن نفسه قائلاً:‏

- كله خير.‏

وداخل البيت لم يكن للخير الذي نرجو أي وجود، حين دخل لم يسألها عن أي شيء، ولم تتحرك هي من مكانها، كلّ الذي فعلاه أن نام كلّ واحدٍ منهما منعزلاً عن الآخر ووجهه عابسٌ!.

يتبع--------

علي الســــــــــــــــــاري

 الشويطي
 02:51 PM
 23.09.06
تسلم يالساري

قصتك ذكرتني في ابيات شعر لا اعرف لمن ولكن قمة البؤس


إن حظي كدقيـقٍ فوقَ شـوكٍ نثـروه
............................................ثم قـالوا لحفاةٍ يـومَ ريـحٍ إجمــعـوه
عـز الجمـع عليـهم فقـالو إتركــوه
...........................................إن من أشقاهُ ربي كيف أنتم تسعدوه

بإنتظار البقية من القصة
 دموع
 11:05 AM
 24.09.06
ابيات رائعة يا الشويطي

وقصة في غاية الشوق حالة اجتماعية نعيش بها حتى في يومنا هذا

بالله عليك لا تتأخر
 علي الساري
 11:29 AM
 24.09.06
الحلقة الخامسة
------------------


قبل صلاة الجمعة صبيحة اليوم التالي قال لأختي فريدة كأنه يريد أن يؤكد على سيطرته:‏

- قولي لها أن تطبخ " عدس بحامض ".‏

ومن كانت ممسوسة "بالليفة" والصابون، ومن كانت تجر ظلال قهرها وخيبة أملها في أن تكون سيدة منزل مرغوب بها، انهمكت في تنظيف البيت والغسيل المتراكم فتأخرت عن الطبخ.‏

كانت فرصة مواتية جاءته على قدميها ليثور في وجهها مثل فيل طاش عن قطيعه، لأستشعر من ذلك الزجاج المتناثر الذي تلقفته الأرض في زوايا المطبخ حزناً آسراً يتردد في أعماقي كلما هاجت في نفسي هذه الذكرى.‏

- ما الذي حصل؟ وأي ذنب ٍ عظيم ٍ اقترفته لينصب حقده على هذا الشكل وعلى مرأى من صغاره؟.‏

- أيعقل أن يكون ذلك السبب سبباً قاطعاً لثورة ٍ لا تشبه إلا نفسها؟.‏

بين هول هذه اللحظات القاسيات كان أخي الصغير مازن يشهق في بكاءٍ راجفٍ من شدة الرعب.‏

حاولت إسكاته وإيقاف رقص الذئب في دقات قلبي الذي صار مثل الرعد، ضغطت على أعصابي، أسأل نفسي:‏

- لماذا لم أضربه دفاعاً عن أمي ؟!.‏

أجل لماذا لم أضربه دفاعا ًعن أمي، تلك التي زرعت في نفسي أنا الآخر انطواءً منعزلاً لمشاعري نحوها لكني إزاء ما سمعته حنّ قلبي، سمعتها تبكي بصوتٍ مسموع ٍ، كانت هذه هي المرة الأولى التي نسمعها تبكي، خرج صوت بكائها حزيناً مشوباً برائحة الألم كانت تريدنا أن نقف في وجهه، أن نلتف حولها ونصرخ في وجهه ونطرده كما يطردها، لكننا لم نفعل !.‏

داخل هذا العراء من أم ٍ هاجرة ٍ لكوامن صغارها وأب لا مهابة في شخصه، لأن الرهبة من أفعاله وأقواله كانت هي الساكنة في ذاكرة الخلايا والأحاسيس والتي جعلتنا نقف كالمتفرجين كلّ في زاوية عدا مازن الذي جلس قرب أمه يواصل بكاءه، كنا نعيش حياتنا!.‏

في تلك اللحظات الكئيبة هاجمتني أفكار شتى، وفي لحظات متقدة كنت في الشارع أضع نتف الزجاج المتكسر داخل الحاوية كأني أضع ميتاً مؤذياً!.‏

وأنا أصعد سلالم الدرج أطلّ وجهها من فتحة الباب واقتربت مني قائلة ً:‏

- أهلاً غالب، ما بك؟‏

- أهلاً نوال ما في شيء.‏

(بصعوبة أزحت سكين الجرح العالقة في الحلق وأجبتها ).‏

- كأنما سمعنا صوت تكسير، ماذا حصل؟.‏

- لاشيء، لا تشغلي بالك!.‏

في هذا الظرف القاسي تقدمت نحوي بجرأة، امتدت يدها إلى جبيني، أحست ببرودته ؛ أرادت أن تتكلم معي،كنتُ في حالةٍ لا تسمح لي بالتكلم معها، فأبعدت يدها، وقلت :‏

- أرجوك اتركيني يا نوال.‏

- ------------‏

- مع من تتكلمين؟، ادخلي.‏

جاء صوت أمها من الداخل ذابلاً، فخمنت أن تكون هي الأخرى في وقيعة مع زوجها تشبه وقيعة أمي!.‏

تركتها تدخل وانتظرت حتى أغلقت الباب، ثم تابعت الصعود ضغطت على جرس الباب، ظهر في وجهي مثل مارد أوداجه المنفوخة تنمُّ عن غضبِ حاقدٍ لئيم ٍ؛ رشقني بنظرة قادحة كأنها شرر حارق وتابع هبوطه إلى حيث لا أدري!.‏

في الهزيع الأخير من الليل، وكما تعودنا في الآونة الأخيرة أن يطول سهره خارج البيت، فتحت عينيّ، رأيت شبحاً لا أعرفه، وكيف أعرفه وقد دخل متطوحاً يتقاذفه فراغ الغرفة وقميصه على يده ولا شيء يستر صدره!، أنالا أصدق الذي رأيته، ولا أصدق أيضاً أن الذي حصل كان بسبب "العدس بحامض"!.‏

أهو الكره؟ أمْ بسبب فقدان الحب ؟ أمْ بسبب جدتي التي تكره أمي ؟ وجدتي ووالدي يكرهان بيت جدي من أهل أمي!!‏

تركتُ الفراش وتسللتُ على مهلٍ إلى الشرفة، أردتُ أن أتنفسَ الهواء بعمق ٍ، أن أتأملَ الليل والنجوم، أن أخاطبَ المداخن شهودي الأوائل على ألم ٍ مازال مغروساً في الجسد والذاكرة، نظرتُ إلى هوائيات التلفزة وأسلاكها اللاقطة،تساءلت:‏

" تُراها تملك القدرة على مخاطبتي أو تصوير أحزاني لعرضها في مسلسل عالمي، أمْ تراها لا تأبه بشخصي فأنا مجرد هامش ٍ في صفحةٍ مملوءةٍ بالكثير مما يشبه أحداث أحزاني" ؟!.‏

فتشت عن القمر، كان غائباً، في طرفه الآخر من الكرة الأرضية في المكان الذي تتموسق على لجين أشعته أحلام العاشقين، وأحلام الأطفال المترفين الذين لا ينتمون إلى عالم طفولتي، فأنا نقطة من مداد وجد تخفض جناح الذل من الرحمة!.‏

مُلت برأسي نحو الأسفل، كانت المسافة طويلة، كأني أول مرة أشاهد هذا الارتفاع، وهذه الحارة الهادئة تشاركني تأملاتي في انخفاضها والتوائها عند مفرق الشارع، ولأن الأمر كذلك فقد داهمني شعور غريب، لماذا لا أرمي بنفسي من هذا العلو؟ لعلّ النيام الهانئين بنومهم يستيقظون بمن فيهم والدايّ البارّان بأولادهما، ليشاهدا دمي البارد وقد رسم على الأرض أسئلة في نهاية كلّ واحدٍ علامة من علامات التنقيط، التعجب، والاستفهام والفاصلة والنقطة غير موجودة فالمصير مازال مبهماً مجهولاً!.‏

فجأة تنبهت إلى سخرية الشيطان فصرخت من أعماق الصمت لا، لن أجعلكما تفرحان بموتي، ربما تبكيان بضعة أيام وربما لاوجود للدموع في حياتكما على ولدكما! لن أدعكما تنعمان بالهدوء، سأكون مثل حجارة من صوان تعيق هدوء فرحكما المتآكل من ثرثرة الحيزبون!.‏

أدرتُ ظهري نحو الداخل، رمقتُ الجميع، طار نومي في خضم هذه المضطربات وعيناي ترمقان أمي بنظرات ذات معنى عميق وعميق جداً، من دون أن أشعر نحوها بالعطف عليها رغم صفرة وجهها الباهت، والذي كان يثير الشفقة في نفس أي شخص ٍ كان حين يشاهد وجه هذه المرأة!.‏

تكورتُ على الأريكة الخشبية والحزن يأكل ما بقي من اخضرار القلب وأنا متوتر الأعصاب، غاضبٌ!.‏

انشقتْ خيوط الفجر وانسلتْ ضفائر الشمس مخترقة زجاج النوافذ والشرفات لتقدم عزاءها إلى هذا البيت، كان الكل ما يزال يغط في نومه، تسللت بهدوءٍ على رؤوس أصابعي إلى مكان نومه، امتدت يدي إلى جيب بنطاله، أمسكت بقطعةٍ ورقيةٍ فئة المئة ليرة، وعلى مهلٍ أطلقت رجليّ إلى الشارع مثل سحلية لا تصدر صوتاً!.‏

كانت شوارع المدينة ومنعطفات حديقة ميسلون ملاذي الوحيد، كنت أغني، لمن أغني لا أعرف، هل كنت أغني لعبد الحليم أمْ لفريد أمْ لعبد الوهاب؟ اختلطت الكلمات بالألحان المهم كنتُ أغني لأرمم شقوق الذات المقهورة، ومن طبيعة التسكع أن تكون قد تعرفت على شلةٍ من فريق ٍ هوايتهم العبث والتحرش بالنساء، كنتُ أعرف أين يوجدون، وحين عثرتُ على واحدٍ منهم سررتُ برؤيته، لن أكون وحيداً في ممارسة "الزعرنة"، وقتلاً للوقت الذي ما عاد تافهاً فقد سألته أن نذهب إلى السينما!.‏

سألني بدهشة مقترنة بالرضا:‏

- سينما؟.‏

- لمَ لا، ألسنا مولعين بالحرية؟ أم أنك ترفض دعوتي ؟!.‏

بذل عمر كلّ جهده حتى لا يبدو ضعيفاً أمام قدرتي على الدفع وجعلني في الدخول أتقدمه، فانتابني إحساس بالقوة والزهو مما أفعل!.‏

بعد الفيلم شعرت بالجوع فاشتريت "سندويش فلافل" واتفقنا أن نقضي بعض الوقت في الحديقة العامة، اخترنا مكاناً قصياً، كانت رائحة نهر قويق الكريهة تسبب الزكام للعابرين القلائل على عكس ما كنا نحس به، مياه ضحلة شبه راكدة لا تجدد في حياتها تحتوي على عرق المدينة وغبارها، رائحته لا يحتمل الأنف رداءتها ومع هذا كنا نشعر باللذة ونحن نغني مزيجاً من الألحان والكلمات التي باتت تخصنا وحدنا!!‏

حين سادنا الملل قررنا أن نتزحلق زاحفين إلى شارع "العزيزية فالتلل"، فهناك وعلى الأرصفة المكتظة بالناس بين رواح ومجيء تبدأ الحياة التي نبحث عنها ولا تبحث عنا، نخترق صفوف النساء كي نلمس يد تلك أو خصر هذه،أو، لم تكن تهمنا الشتائم واللعنات التي كانت النسوة ترد فيها على تحرشاتنا، فسمعنا غير مرهف!!.‏

حوالي التاسعة من مساء ذلك اليوم عدتُ إلى البيت بعد أن اتفقت مع عمر على يوم ٍ جديد ٍفي موعد ٍقريب ٍ، وعندما دخلت البيت أبديت عدم اكتراثٍ ولا مبالاةٍ من أسئلتها التي بدت لي غير مستحبة.‏

صعقتها لا مبالاتي، وأوقدت في حنجرتها سياطاًمن الغضب، المرأة الأم تغضب وتثور، الليلة بدأت تسأل! قبل هذه الليالي لم تكن تسأل، قال كانت تحسبني في المحل !.‏

سخرت من قوتها المفاجئة ومحاسبتها التي بدت لي صارمة على غير عهدي بها، فأدرت ظهري متجاهلاً نهرها وجموح ثورتها، أمسكت بي من كتفي وشدتني بعنفٍ، كان الغضب مشتعلاً في عينيها الأم المشغولة بتلميع "الطناجر" والصحون تغضب وتثور وتسأل، ربما فقدت عقلها من تأثير الصدمة السابقة، أعادها غضبها إلى شدي بقوةٍ:‏

- أبوك، سألني عنك مرتين، أين كنت؟.‏

لا مبالياً سحبت يدي من يدها، وأدرت ظهري ثانية وقبل أن أرد على سؤالها دار المفتاح بقفل الباب وانفتح عن وجه كأنه مارد قذفه إلينا بساط الريح لأقع بين لكماته والضرب بقدميه مثل كرة يلعب بها هداف واثق من نفسه، وقبل أن تهدأ غلالة قباحة عقابه النافر التفت نحوها وقال:‏

- مسرورة أنت الآن؟ ابنك في الشوارع؟ حياة " مقرفة".‏

في هذه الليلة لم أشعر بالألم من صفعاته ولكماته، ولم أشعر بالراحة إلا حين سمعته يرمي بسوء تربيتي على كاهلها وكم تمنيت أن تكون جدتي موجودة تشارك أبي اتهامه لأمي في عدم وجود السؤال عن ولدها!.‏

ابتدأت أنمو في وحشةٍ من انطواءٍ على التمردِ الحاقدِ الذي راحت تنمو معه ملامح الذكورة التي جعلتني أحس بالنشوة يوم شعرت بأني قد دخلت مرحلة المراهقة!‏

تصاهرت أحلام بدايات مراهقتي مع صراعات أبي بأمي والأنغام الجديدة ترسم كلماتها في ذاكرتي التي ما غادرت عقلي :‏

- أمك جعلتني أكره اسمك واسم أخوتك، دائماً تذمر، وآهات وشكاوى كيف سأدبر أمري؟ لا أعرف؟‏

فأهمس سراً بشماتةٍ " معك حق، أمي دائماً تنقُ مثل ضفدعة مجروحة!".‏

يتبع-----

علي الســــــــــــاري

 علي الساري
 01:45 PM
 25.09.06
الحلقة السادسه
-------------------


لم أظلمْ أمي، فنق الجريح من وجود الألم يحتاج إلى طبيبٍ ودواء أمي أن تشكوني إلى أبي، وفي هذا لابدّ من أن يضربني وهو يسبني قائلاً:‏

- ولا... ك، ابن الحرام ألن تعقل ؟‏

فأنكمش شاعراً بالذل أمام أخوتي كما في كل مرةٍ!.‏

لكنّ شكوى أمي هذه المرة لم تكن بسبب مشكلة بيني وبينها، بل كانت بسبب ما قالته الجارة أم نوري :‏

- والله يا أم غالب، هذا الكلام من ورائه خراب بيوت ودم!.‏

وكان على أمي أن تردّ عليها قائلة:‏

- صوني ابنتك!‏

- ابنتي مصونة، الغلط من ابنك ومن قلة تربيته!‏

- الولد مثل السيف... لكن البنت... !!.‏

وفي هذا زاد الكلام ولم ينقص وكادتا تتصايحان وتتشابكان وتنتفان شعرا رأسيهما، لولا تدخل الحاجة "أم رضا"، وكنت داخل البيت أسمع صياح المرأتين، وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي جعلتني أخاف من أمي بعد هذا الشجار!!.‏

كان خير مكان ٍ اختبأ فيه هو الحمّام، ورغم اختبائي وخوفي فلقد ابتسمت بخبثٍ وقلت في نفسي : " مسكينة أمي وجارتنا تفضحان بعضهما من دون أن تقدرا على منعنا "، وأكاد أضحك بصوتٍ عالٍ !.‏

تفاصيل أخرى وغير إضافية حدثت ما عدت قادراًعلى ذكرها لأنها لاتهمني، والذي يهمني أن أذكره ذلك الحدث الهام في حياتي عندما حصلت على وظيفة مراسل حركي عليه أن يقف عند باب المحل مثل عمود الكهرباء!.‏

وحتى لا يبقى المستور مستوراً على واحدٍ في مثل عمري فقد أرسلني لتبديل الجوارب النسائية، فالنسوة كانت تشكو من قصر الساق ولأن التاجر الذي أرسلني إليه كان مسافراً، وبما أني كنت أحمل علب الكرتون ولا أستطيع التلكؤ، فقد عدت إلى المحل بسرعةٍ ومن دون تأخر، حتى وقعت في رجفةٍ أوهنت مفاصلي، وأذعرت دقات قلبي وعقدت طلاقة لساني في صرخات مكتومة وبعينين براقتين التقطت أبرع الصور لأردد في داخلي:‏

- يعيش بابا، رجل ولا كل الرجال.‏

شعرتُ بمرارة التقيؤ في أعماقي، تمنيت في اللحظة تلك أن يشاهد الناس ما شاهدته، كانت زهرة الربيع المقطوفة تجلس في حضنه يقبلان بعضهما، فبعد الظهر تضعف حركة الناس، بل تكاد تعدم وخاصة يوم الأحد، وحين عدت بهذه السرعة ودخلت فجأة وجدني واقفاً أحدق مثل صقر ٍ، فانتفض فزعاً بينما هي انخلع قلبها من رهبة نظراتي المحدجة عميقاً عميقاً، وكم تمنيت أن أفعل شيئاً، لكنني لم أفعل!.‏

الرجل مسح شاربيه وهي أدارت بظهرها إليّ، ولم يقل شيئاً سوى ذلك السؤال، وكأن الذي حصل كان عبارة عن سحابة هامشية:‏

- هل بدلت الجوارب؟.‏

بنزق ٍ غاضبٍ وضعت العلب على الطاولة وخرجت إلى الرصيف كانت قطتي بانتظاري ولحظة رأتني ركضت نحوي وهي تموء،اقتربت مني تهز ذيلها، فضربتها برجلي ففرت إلى الرصيف المقابل وهي تصرخ بصوتها المعروف كأنها تستهجن من فعلتي وأنا كالغريب واقفٌ أسأل: ابن من أنا؟.‏

"كاترين" خرجت غير آبهة بنظراتي التي كان الشرر يتطاير منها، مرت من أمامي نكاية بي، ويداي كانتا تريدان أن تقبضا على عنقها، وحين صرخ غالب عرفت أنه سيطلب مني السكوت!.‏

حاول أن يكون منهمكاً في عدّ الأوراق النقدية، وقد بدا لي أنه غير مضطربٍ، وشيء غامض في دماغي كان يوزع شظاياه على خلايا جسدي لأشعر في هذه اللحظة بالذات أني أريد البكاء!.‏

كنت متعباً وحين نظرت في وجهه أحسست كأنني أول مرة أرى وجهه، وجه بارد كالحديد، أمسك بذقني، رفع وجهي نحو وجهه وبجدية قال:‏

- أنت كبرت، ولابدّ أن تفهم، سنكون أنا وأنت بعد هذا اليوم أصدقاءً ما رأيك؟!.‏

غشاوة مخاطية لزجة نزلت على عينيّ، فوجئت بطلبه، إنها المرة الأولى التي يعاملني فيها على أني أصبحت شخصاً كبيراً أفهم، صوته غير الأليف يمشي في دمي، فتعمدت تركه حائراً وخرجت بعد أن ضربت باب المحل بقدمي.‏

الجسدُ ضئيلٌ ونحيلٌ، العين ترى الناس بشكل معوج ٍ، سقط العالم أمام روحي فبدأت أسرح مع رائحة النهر، وحين رأيت رجلاً يلاعب طفله سولت نفسي لي " سأعترض طريق ذلك الرجل، سأعكر فرح طفله، إنهما يلعبان بالكرة، يتسابقان، يتضاحكان، سأنزل من الجسر إلى النهر، سأشرب من مائه، هذا القلب يبحث عن الموت " وفجأة تذكرتها تذكرت ما قالت "أنا بانتظارك"، فقررت العودة وأنا متصدع، مأكول، حتى قهقهت أعماقي:‏

- سأفعل مع نوال شيئاً مهماً!.‏

يتبـــــــــــــع............


 ذيب الفرات
 12:20 AM
 26.09.06
تسلم ايدك اخوي علي عالقصة الرائعة
وبانتظار بقية القصة
تحياتي الك
 إبن الفرااات
 09:24 AM
 26.09.06
عزيزي أبا باسل عذرا" عذرا" لتأخري بالمشاركة ولكن أعدك بالمتابعة ولي ملاحظة كبر خطك لأنو نظر أخوك ابو محمد على قدو وتسلم ولي تعقيب على الأخ الشويطي بحلمه :
وبالمناسبة حلمتلك حلم يالساري
وانشاء الله يكون حقيقة
حلمت انك صاير مشرف قسم القصص والروايات (( الشويطي ))
ولماذا حلم أنا أراه حقيقة ويستاهل الأخ علي ففي نهاية القصة سنطلب إجتماع مجلس إدارة ونصوت على حلمك 00 على شرط أخي علي خلي القصة شوي شوي مو تحط كل عشر حلقات سوا عشان الاجتماع
 علي الساري
 12:21 PM
 27.09.06
اسعدني مروركم اخي ذيب الفرات
واخي ابو محمد وشكرا على هذا الكلام
فلقد احرجتني وانشاءالله اكون عند حسن ظنك.


الحلقة السابعة
----------------

هاأنذا الآن أسترجع في ذاكرتي قصة حياته كما حكاها لي ربما كي أشفق على أبوته التي أشعرتني آنذاك إني لا أنتمي إليها، وربما كي أحسّ بشقائه وكدّه وحرمانه.‏

كان يتسلق حافلة النقل الداخلي وهي تسير، كي لا يدفع ثمن التذكرة معرضاً نفسه للخطر، وعند موقف النزول كان يقذف بنفسه على الرصيف ويجري بسرعة الريح إلى باب "جنين" للعمل في محطة لبيع المحروقات، ويسعى بكلّ جهده في أن يدخر البخشيش من أجور الضخ، وفي هذا كان يجمع القرش فوق القرش.‏

لسيرتك وقع في قلبي مثل غيمة لا تمطر أبداً، الطفولة تحترق في سعيك الدؤوب على جمع المال بائعاً للجوارب على أرصفة التلل، ثم دَهان عند معلم أرمني، فعامل موسمي في محالج القطن، أستمع إلى التفاصيل بعذابٍ يأكل نبض قلبي والضحكة السافرة عن مجونها في هذه القصة، الضحكة التي يسخر من سماعها رجال الذاكرة التي لا تعرف رائحة النهر في هذه المدينة أن في قصة ولادتك ما يشبه قصة ولادتي!!.‏

سمعت أمي تحكي لجارتها أن وحامها لم يكن على الحامض أو الحلو من الطعام، كانت ورغم بساطتها في الفهم قد أغرمت على متابعة مسلسل الجذور "كونتا كونتي" المسلسل الذي ظهر في أواخر السبعينات، أي في عام 1979، لهذا كانت سمرتي غامقة تميل إلى الصفرة، وأنفي كبير يشبه إلى حدّ ما أنف جدتي أم أبي، وجدتي أم أبي كما سمعتها تحكي لجارتنا أم نوري بعد طلاق أمي أنها حاولت الإجهاض غير مرة خشية من أن يعيدها زوجها إليه إذا كان المولود ذكراً!.‏

في زاوية ما وجد نفسه مع أمه في مرتع من الذل لم يختره هو، بل اختارته هي، يوم رفضت العودة وأصرت على الطلاق!‏

وجد نفسه مع أمه في بيتٍ غير بيت أبيه، وعندما صار الصبي في مثل عمري رفضته زوجة خاله، رفضته قائلة :‏

- الولد كبر، وأنا أخاف على البنات، تدبر أمره وأختك !!‏

وفي هذا تحدث أبي عن كلّ التفاصيل، تحدث قائلاً:‏

" لأن أمي رفضت الخروج تقرفص خالي على الأرض وراح يفعل كما تفعل النائحات بإذلال ٍ لا يمطر إلا الخوف من التمادي بالنواح حينئذٍ قررنا الرحيل عنهم، فخرجنا، ورحنا نبحث عن سكن في غير مكان فزوجته وبيته وأولاده ما عادوا يرغبون بوجودي وأمي !‏

خرجنا نبحث عن مأوى بين وحل الأمطار والبرك الآسنة التي كانت منتشرة في الحواري والأزقة، كنا نمشي بهدوءٍ داخل فراغ الهواء وصمت الضباب بذل ٍ لا يشبه سوى صورة الموت المخيف ونحن نسأل عن بيتٍ يحتوينا والأشياء التافهة التي كنا نحملها، فلم نجد غير سكونٍ لزج ٍ ينبعث من أزقة الحارات الضيقة، و"بقجة" حاجات أمي وكيس الورق الكبير يخشخش مثل أوراق ٍهشةٍ مصفرةٍ يبست في فصل الخريف، صوتها الآن ينداح في قلبي وعقلي كما الأنين!.‏

- أهلاً بالست أم فريد.‏

مصادفة التقت بنا أم طوني، كما كانت تلتقي بأمي غير مرة في حمام "قسطل الحرامي"، أخذتنا معها إلى سكنها في "براكات الأرمن" قرب "الخان الحزين"، وكان من الصعب علينا أن نجد غرفة خالية تحتوينا وهذه الأشياء التافهة، لولا وجود هذه الصديقة التي تدبرت الأمر بعد أن رثت على حالتنا المزرية، لأنها لم تنس هجرتها وحيدة من حرب" الطوشة" بعد أن فقدت زوجها وولديها والتي ما نسيتها أبداً وكيف تنساها وقد حفرت الحزن في أخاديد الذاكرة؟!.‏

في تلك الغرفة نظرتُ بإمعان إلى السقف الخشبي بأعمدته السوداء، قرأتُ من خيوط العنكبوت المعششة في الزوايا عن قصة هجرٍ وهجرة.‏

حين دخلتُ مع أمي إلى غرفة المرأة، المرأة التي لم تصرعها حرب " الطوشة "، شرعتُ أمعن النظر بالغرفة، كان كلّ شيء فيها ينمُ عن فن امرأة تجيد الشغل بالسنارة وبالمخرز، وصورة العذراء والسيد المسيح على الرف ُتزينها ثلاث شمعاتٍ على ثلاث شمعداناتٍ برونزية، حينذاك استقر بنا الحال في هذا المكان، بعد يومين تدبرت لي أم طوني عملاً عند معلم دهان وقالت لي وقتئذٍ:‏

- صنعة باليد أمان من الفقر.‏

حينئذٍ بدأت الصراع مع نفسي ومع الزمن في إجهاد نفسي بالعمل وفي داخلي صقيعٌ من الذل يجثمُ على روحي،أحاول كلما تقدمت خطوة أن أتدثر بالدفء الذي ُحرمت منه، أريد أن أغطيه لأتغلب على كلّ صنوف القهر والحرمان الذي ذقته في بيت خالي!".‏

من هذه القصة، قصة الطرد قبل منتصف الليل، استشرى الحقد في داخلك، كان ينمو في قلبك ويكبر، ومع تطامن هذه الجراح التي ما عرفت كيف تندمل، وكيف تندملُ ومن جعلتك تنشأ على أحقاد عالمها لا تفارقها، ولا تفارقك، أودعت عواطف روحك في صندوق ٍمن التحجر تجاه والدك، فتنكرت من اسمه ومن وجود اسمك حتى في دفتر العائلة، ألمْ تزرع في نفسك الغلّ نحوه عندما كانت تقول لك ولمن كان يجالسها أنه رفض أن يدفع لك نفقة، أو أية مصاريف تتعلق برضاعتك أو بحضانة طفولتك!.‏

تكفلتْ هي بكل مصاريفك من شغلها على ماكينة الخياطة حتى أصبحت قادراً على العمل، انتبه، في السن ذاتها تطالبني أن أتعلم حرفة أو صنعة، أنت من أجل لقمة العيش تركت المدرسة ورحت تعمل أجيراً عند الناس، وأنا لأجل نقمتك على من لم يحتويك وأمك، ولقمة ولدك من صلبك، كنت تقول أنك تخسر!‏

أيها الرجل- الطفل- صاحب عقدة ألا ترى معي لأنك عشت محروماً من إنسانيتك في طفولتك تنتقم مني لاشعورياً قاتلاً كلّ أماني الطفولة بأحلامها البكر!.‏

أنا أذكر هذا الكلام، وأذكر أيضاً أنك كنت تريد أن أقذف بنفسي للعمل في مهنة، حرفة، صنعة، كي تستعين بأجري على مصروف البيت، لم يكن يهمك ما سأكون، وبماذا أحلم، وما هو هدفي ؟؟ كان هدفك أن يشتغل غالب، وتحققت رغبتك! فاشتغل غالب في غير مهنة أو حرفة، أو صنعة، اشتغل غالب في تعاطي الحشيش والنوم مع السكارى والهاربين من العدالة، تعالَ انظر إليّ الآن، انظر إلى ذاكرتي، حاول أن توقف فتيل التوقد الأحمر، حاول أن تضبط أعصابك وأنت تسمع باسم منْ تعرفتُ عليه داخل السجن!!‏

فأنا لم أستطع أن أخفي تأثري من التحول المحتوم الذي آلت إليه نفسي وأنا أراه يدخل " القاووش "، راودني شعور غريب! ولكن لماذا ضجت أصوات السجناء ؟ يا لضجيج هذا المكان!، مرغماً أقطع عزف القلم والروح والعقل وأنظر في وجهه، أرى الملامح المتصاهرة، المأخوذة من اللحم الحي، هذه الملامح شدتني لاشعورياً إلى مناصرته بدافع من اغتباطٍ خفي ٍ، لا تدري من أين تدفأت به نفسك ؟ ولمَ ؟!.‏

في تلك اللحظات، لحظات الإدراك الخفي لإحساس ضامر بدأ يشق رحم الأرض التي هي النفس، ساقتني خطواتي نحو الرجل الذي كنت أدعوه بعمي، وسألته :‏

- تُرى ما تهمة هذا السجين الجديد؟.‏

وأبو حسن الذي كان مستاءً من عزلتي عنه، حدق في وجهي بنظرات حيرى، وبتهكم ٍ ردّ عليّ:‏

- الحمد لله، جاء من حرّك صيام لسانك عن الكلام!.‏

أطرقت خجلاً، فقبل مجيئه كنت مضطهداً من هؤلاء الغربان، فتساءلت داخل سكون روحي "هل سيفعل به هؤلاء المسجونون مثلما فعلوا بي يوم دخلت " القاووش " وقبل مجيء أبي حسن؟ ".‏

أسئلة كثيرة متسارعة متشابكة متوجسة توافدت ثم توقفت فصوت أبي حسن ينتشلني من قاعة حواراتي الصامتة قائلاً:‏

- تعالَ، اجلس، " طرنيب ولا تركس".‏

لم أكن راغباً في اللعب، لكنني أمام مبسمه الودود، جلست وما إن فتح الورق حتى تهافت نحونا من أكره مجالستهم، وأنفر من وقاحة أحاديثهم ونكاتهم التافهة ذات الكلمات المترجرجة البذيئة.‏

من بداية اللعب تذمر أبو حسن وبدت غضبته واضحة وعقدة حاجبيه متمترسة، فوجدت أنه من الأجدى لي أن أنسحب إلى سريري وأنا غير راضٍ عن خسارتنا وأصواتهم تنم ّعن كوامنهم.‏

من مكاني حاولت أن اختلس النظر إلى وجه الزائر الجديد وهو مستلق على سريره بشرودٍ حزين ٍ!.‏

دققت النظر فيه وبسهوه، أريد أن أسأله بعض أسئلة ربما لا تشبه الأسئلة التي واجهني بها هؤلاء السجناء يوم دخلت "القاووش " ولا حتى يوم كنتُ في دار الأحداث.‏

- لماذا تملكتني الرغبة في البكاء ؟، ولماذا تملكتني الرغبة في الرقص؟ ولماذا تملكتني الرغبة في الصياح؟ ولماذا تملكتني الرغبة في نوم ٍ مضطربٍ قلق ٍبعد أن تركت اللعب وتمددت على سريري ؟! فهذا لأنني لم أجد الجواب!!.‏

في الصباح استيقظنا على أصوات جلبة غير عادية تساءلت والنعاس يطبق على أجفاني ماذا يجري؟ الشرطة في حالة استنفار الكتائب في تحرك، صفارات الإنذار تصدح، كل الزنزانات يطوقها الضباط والحرس، الزمان يتوقف، يتهيأ الجميع إلى معرفة الحدث الجديد الهام، الحدث الذي بلبل أرجاء السجن كافة!‏

تجمعنا حول قضبان النافذة الوحيدة، وبين تجمع الرجال وجدت نفسي ضئيلاً لا يحتمل رائحة عرقهم التي تشبه رائحة النهر والتي مازالت مختزنة في ذاكرة الأنف، وحين سمعتهم يقولون يبدو أن أحد السجناء حاول الانتحار، اقتربت من أبي حسن وسألته:‏

- هل هو الشخص نفسه الذي حاول الانتحار في المطعم ؟.‏

بَسَمَ في وجهي بسمة خفيفة ثم أحنى رأسه من أذني وبهمس ٍ قال:‏

- لا تستعجل، يا غالب، لا تستعجل.‏

عدتُ إلى مكاني، التقتْ عيناي في عينيه فقرأتُ زفرات الأسى في وجهه، وحتى لا أفقد ما أحسست به من ارتياح ٍ اقتربت منه وسألته:‏

- كيف حالك اليوم؟‏

- بخير ٍ.‏

انساب صوته في قلبي مثل خرير جدول، وداخل خلايا جسدي نبضَ الدم في عروقي دافئاً، شعرت بدفئه فصوته هادئ، نبرته لطيفة إحساس غامض شدني إلى الجلوس قربه أرغب في محاورته، مصادقة أشجانه، وأنا في مضطرب سحيق المدى مع ذكرياتي!.‏

كان الهدوء قد عمّ المكان بعد هذا الصخب والضجيج ورغم رداءة الزمن وتباطؤه في معرفة أسباب البلبلة جاءنا الخبر البارد الحار الرجل لم تحتمل أعصابه أن يستقر حكمه على المؤبد !.‏

وحين تمكن من الحصول على شفرة حلاقة راح يضرب بها وجهه ويديه في لحظة جنون وهو يصرخ مهدداً كلّ من يقترب منه، حتى فقد وعيه بعد أن غاص في بركة من الدماء وحين أغميّ على الرجل نقلوه بسرعة إلى المشفى لعلاجه والذي نقل الخبر قال ربما لا يعود إلى السجن بل إلى المقبرة، فالرجل نزف كثيراً!!.‏

لم تكن الدعوة باردة فالرجل بمقامه الحصيف قال وبصوت جهوري يميل إلى الأبوة:‏

- تعالَ، صاهرنا بالطعام.‏

انشرح صدري من دعوة أبي حسن للسجين،وانفرجت قسمات وجهي عن ابتسامة غبطة، سرّتني هذه اللفتة الكريمة سروراً عظيماً فمسكته من يده وقلت:‏

- هيا، قم ْ، انهضْ.‏

كالعادة بعد الفطور جلسنا نفتش عن القمل، اندهش الرجل مما نفعل!. ثم كمن يبتلع مقصاً أجاب عن سؤال أبي حسن ببحة من حزن في أسى:‏

- دهستُ طفلاً!.‏

تركت القميص من يدي وسألته:‏

- كيف؟.‏

أجاب وهو يبلع الغصة :‏

- المسكين كان يحمل كيساً من الخبز، الإشارة الضوئية كانت للسيارات وكنت مسرعاً ولم أتمكن من ضبط "الفرامل" وقبل أن تنطفئ الإشارة الخضراء كان مثل شبح ركض حول حتفه!‏

- لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: أبو حسن.‏

حينئذ ٍ مفاتيح الأنوار المشتعلة انطفأت، فقدت حالة التوازن التي اتكأت على بعض ٍ من استقرارها في نفسي فأتمنى وبلا جهر بالأسباب أن أكون أنا ذلك الطفل المأسوف على حياته اللحظة تلك، وفي قهر من صمت موجع " بالله عليك أعدْ ما قلت، تابع رصد دقائق اللحظة الواصفة لدقائق لحظاتي السابقة يوم نسيت "الفراطة" على رصيف الشارع.‏

غني على أحزاني أغنية الخبز والدم، ودعني أرقص على ألحانها رقصة الموت، أخاف من هذه الذكرى، قسوتها ما تزال عالقة في شجر الروح، أشعر بالانكسار، بالفجوة تضعني في قلب المأساة، بالألم ينضح بالوجع، أحس حالة من الصراخ تعتريني، سأصرخ الآن سأبكي، سأفعل فعلة المحكوم بالإعدام ".‏

وأنا في صراع على قسوة ما كان وما سيكون، أسمع صوت "الباحاتي" يشق صمت زنزانةٍ مظلمةٍ لا شمس فيها، ورجل الشهامة يُغلق برتاج المروءة مقاومة أحزاني قائلاً:‏

- هيا بلا كسل، هات الغسيل، لا أريد أن أتأخر على الحرمة.‏

لست أدري لماذا في اللحظة تلك شعرت بالرعشة تلو الرعشة تخون قوتي، فتمددت على الحصير قرب السرير أتأمل الضوء المنسرب من فتحة باب " القاووش " تأملت كل الأشياء، الوجوه تُمطر الشقاء إلا وجهه، أريد أن أبدو أمامه رجلاً عاقلاً لا شاباً ضعيفاً، أريد أن أتغلب على الأزمة الداخلية التي انفجرت في داخلي كي تعيدني إلى الدائرة السوداء ذاتها، دائرة الخبز وقسوة العقوبة، فاقتربت منه وبجرأة قلت:‏

- لم نتعرفْ على اسمك بعد؟.‏

أطفأ سيكارته وبغصص من دمعٍ محتجزٍ في العينين الذابلتين قال :‏

- وجيه عبد الوكيل الدليل.‏

لا شعورياً قفزت عن مكاني، وعقلي يردد وجيه عبد الوكيل الدليل، كأني سمعت بهذا الاسم من والدي، وجيه عبد الوكيل الدليل إذن أبعدوني عن العقرب، أبعدوني عن الحرباء، وبانفعالٍ لا إرادي صرخت:‏

- أعدْ الاسم الذي ذكرت‏

- وجيه عبد الوكيل الدليل، هل في الاسم خطأ ما ؟‏

لم أسمع ما قاله السجين، دختُ مثل سكران أفقدته الضربة القاضية حالة التوازن، غبت داخل آبار من خمر معتق وقديم، ركضت الأسماء من حولي، نسب أبي، أخوة أبي، أصبحت أترنح كمن بدأ يفقد وعيه فشعر بتهالكي، مسك يدي وهزني ربما كي أصحو وكرر :‏

- هل هناك خطأ ما ؟ أفزعتني، ما بك؟.‏

انفجرتُ ضاحكاً، ضحكتي تفرقع بشيء من الهستيريا وأنا أصرخ:‏

- وجيه عبد الوكيل الدليل، وجيه، أخو أبي، أو تشابه أسماء !!‏

الرجل غضب وتجهم وجهه فصرخ في وجهي:‏

- عن ماذا تتحدث ؟ ومن أخو، من؟ نعم اسمي وجيه عبد الوكيل الدليل قل ما الأمر؟ هل هذا وقت التنكيت ؟‏

حين سمع السجناء بكلام السجين الجديد وهو يصرخ قل ما الأمر هل هذا هو وقت التنكيت وهو ممسك بيدي، اندهشوا مما يحدث، ومن غريب صخب انفعالي وصوتي الذي بدا مثل جأر الثور!.‏

الرجال معهم حق! ما يقال الساعة تلك قد يبدو قصة خرافية من أيام الأساطير في تشابه الأسماء، بل في حقيقة وجود النسب، هل أناقش هؤلاء؟ أم واحداً من أبطال "الحدوتة" الحكائية والتي أذهلتني سيرتها على لسان شمطاء دحرت أواصر القربى و أبعدتهم عنا في مهزلة من تهويم ٍ فج ٍ لا يغادر ذاكرة عقلي.‏

دعوني أضج بضحكي المجنون، دعوني أقرأ عليكم سيرة والدي بل سيرة جدتي، لا تستغربوا مما ستسمعون، أنا عاقل ودقيق فيما سأعرضه عليكم، حكاية من حرضت أمي على الحرد الأخير ابتدأت تفاصيلها تظهر، تعلن عن حقيقة آن الأوان لظهورها، نحن من أسرة مولودة من بطون العجائب والأسرار، ابتعدوا، لا أريد الشماتة، أريد الإصغاء، أصيخوا السمع، انتبهوا إلى ما ستسمعون، لا أريد تزويراً، ولا أريد سهواً، "ابت...عد وا"، وحاولت أن أدور حول نفسي حاولت أن أقف بلا خلل يضبط توازني، لكنني وقعت على الأرض فلقد أغمي عليّ، وحين فتحت عينيّ، وجدت جسدي الواهن على السرير يبلله العرق، بعض الوجوه كانت قربي، فنهضت بعد أن هدأت ثورة جموح جنوني لأجد أن في وجه السجين الجديد ملامح الدهشة والذهول فالآخر صدمه واقعنا، واقع لقائنا في زنزانة، وأن العم أبو حسن حملني من الأرض لحظة دخل ووجدني في حالة لا تشبه إلا نفسها!.‏

الموجوعة أمي والتي كانت ممسوسة بالليفة والصابون كانت تريد صلاح أمره مع أهله من أبيه، ليكون لأولادها أتراب وأهل يزوروننا فنزورهم، يصاهروننا فنصاهرهم، لكن أسوار المرأة التي حكمت ابنها، قلب الحاقدة التي استشرى حقدها في قلبه جعلته رافضاً أن يكون بينه وبينهم أي اتصال!.‏

- انظر يا أبا غالب، أصبحنا أنا وعمي (أخوك من أبيك) أسطورة زمن لا يصدق فيه مثل هذا النوع من الواقع!!.‏

المتهم الحقيقي خارج أسوار الغرف ذات الجدران الحديدية، والمضطهد الذي أدمن على رؤية الشجار والحرد والتسكع في الشوارع والمطرود بلا هوية من أب لا يعترف بوجوده، والذي وجد نفسه من معاشرة الكبار الهاربين من العدالة داخل هذه القضبان محكوم عليه مع محكومين تعددت جناياتهم!.‏

- أيها القاضي الجليل، كم عاماً ستحكم عليّ؟.‏

عدْ معي إلى منزلنا، تذكر حادثة " العدس بحامض "، ارسم بدقة تفاصيل ذلك الرجل الذي تكرر خروجه وسهره حتى وجه الفجر، ارسم ما اعترانا، لا تعجب ولا تنكر الحقيقة، الحقيقة التي تشبه اللعنة على شارب الخمر وبائعها وشاريها وناظرها ونحن كنا ننظر إلى الأرقام نتابع الدواليب بدقة، حتى صرنا نحلم برؤية الأرقام في المنام كما كان يقول هو عن أحلامه، ونحن كنا نتراهن لأننا كنا نحلم بالأرقام مثله،إذن كنا نلعب القمار معه، لم يكن لعباً بالورق فوق طاولة مع شلة من المقامرين، كان لعباً من نموذج ٍ خاص ٍ، نموذج ابتكره سمسار شركاؤه ملوك "البزنس ".‏

في المقهى وحيث كان يجلس زعيم ميسر السرعة، زعيم الابتكار الجديد، والذي كان يمتاز بخصوصية الساسة المروجين، خمن، أو اختر، أو حتى احلم!.‏

مساء كل ثلاثاء كنا كالمأجورين أمام الشاشة بعد أن تقمصنا شخوص الكهنة والعرافين، نتصايح، نصرخ بدعاء فيه رجاء الصغار،أو حتى الكبار إلى الله، "يا رب... آ... على هذا الرقم " والجدة، والتي كانت عيناها مثل عيني ضب ٍ واقفٍ على صخرة جاثية يرتقب فريسته، كانت تنهض من مكانها حين تقف الدواليب الأخيرة على واحدٍ من أرقام الرهان لتحدق النظر في الرقم على الشاشة وقد أحنت ظهرها وفتحت عينيها !.‏

وهذه الممسوسة بالتنظيف أمي والتي كانت لا تعرف عن تفاصيل هذه اللعبة ما قد بدأنا نعرفه نحن الصغار، فذلك لأنها كانت على ثقة تامة من أن آراءها معتقلة، ولأنها كانت لا تخرج من مطبخها حتى ينام الجميع، وأنا بحكم يقظتي الذهنية وبحكم فراستي النشطة كنت قد حفظتها عن ظهر قلب وحفظت اسمها رغم صعلكة حروفها، من حديثه مع أبي "ميشيل" عرفت طريقة الرهان، والذي جعلني أنا الآخر أفكر باللعب بها وأحلم بشراء سيارة حديثة، وبالجلوس في محل أملكه في شارع "العزيزية" لا حي "الميدان"، حتى حلمت أيضاً بأن التي ستعمل عندي هي زنبقة الحي(كاترين) فقد تفيدني في كسب الزبائن، هكذا أصبحت أفكر وأحلم !.‏

ما تحصل عليه سبعة أضعاف المبلغ الذي ُتقامر عليه عن طريق سمسار اليانصيب، فقط قامر باختيارك رقمين تدفع عليهما المبلغ الذي يبدأ بخمس وعشرين ليرة أ و ضعفه أو الضعفين وهكذا، إذن المسألة سهلة ولا تحتاج إلى تعقيدٍ !.‏

وحين فكر أن يراهن على عددٍ كبير من الأرقام بعد أن وضع في يد السمسار كلّ رأسماله النقدي، والذي ادخره لشراء بضاعة في موسم العيد، أصابته الضربة القاضية، الضربة التي تفحمت عليها ملامحه فانزوى كئيباً يلعن حظه، ولولا العيب لفعل مثلما تفعل بعض النساء في أحزانها، كانت الضربة الأخيرة مدمرة، عرته من كل ما يملك فأصبح على الحديد سوى من بعض أشياء ظلت على رفوف المحل والتي لا تعطي غير ثمن الخبز!.‏

في هذه الفترة من هذه المرحلة، مرحلة الخسارة والانزواء، جاءته تمشي الهوينى، وجدت هذه الظروف فرصة مواتية، وحين رآها قادمة نحو المحل أسرع نحوها، مسكها من يدها وسألها بلهفة:‏

- خير يا أمي، ماالذي أتى بك إلى هنا ؟ لمَ لمْ تذهبي إلى البيت؟.‏

أجابت مثل شرطي سجن غاضب:‏

- لا وألف نبي، يكفينا ما حصل، صرنا حكاية في لسان الناس!.‏

وكأنه كان يفكر كثيراً في مصيرنا قال :‏

- والله ما كاسر ظهري غير الأولاد.‏

أجابته بسرعة:‏

- يعني وجودها مثل عدمه، دور على شبابك، مصلحتك أهم، بنت خالك صارت أرملة، وزوجها خلّف لها دارين وسيارة، أنت أحق من الغريب!!.‏

كنت واقفاً قرب الباب أسمع الحديث وأراقب، ولن أنسى كيف برقت عينا والدي، وكيف شعرتُ أن لحم جسدي قد تخشب، وكيف تخيلتُ نفسي مارداً استطالت أظافره وقبض على عنقها وراح ينهشه كما تفعل النسور بالطريدة!!‏

ما تقولين أيتها العجوز المخربة " أنت أحق من الغريب، بنت خالك أصبحت أرملة، أنت أحق من الغريب "!.‏

هل اندفنت مودّة الجسد؟ وخلفت جداراً مخيفاً للانفصال وبجراءة ووقاحة حين رأيته وكاترين، يسرني بعواطفه قائلاً جملته الملعونة "أنا وأمك تآخينا "!!.‏

يتركني وحيداً أعيد في ذاكرتي ما سمعت، ويمضي معها إلى بيت بنت خاله، وكنت ما أزال أفكر في البحث عن عراف ليشرح لي ما معنى كلمة التآخي بين زوجين منذ أن تفوه بهذه الجملة ؟ فأنا لمْ أفهم شيئاً! لأني كنت مراهقاً، ومنغمساً في الحواري شبه الخالية من أفواج الخلائق البشرية، رائحة النهر لا تغادر ذاكرتي فأغني، وأمي تطلق صياحها كالدجاجة من الديك الغريب الذي بدا لها متوحشاً، حين حلق ذقنه وسكب ماء صابون الحلاقة على الأرض، ودخل يلبس ملابسه وهو يصفر ويدندن !.‏

الشيطان يضحك في سراديبه والرجل يغني، تصاهر وإبليس واكتملت نصف الحكاية، والنصف الآخر المتعلق بالمرأة، المرأة الصامتة الممسوسة بالليفة والصابون والتي تحزمت أخيراً بالجرأة بعد أن طاش صوابها والتي صرخت بملء وجعها: - لمَ فعلت هذا؟، لم يعد صبرها كما كان، وبأعصاب باردة يستدير نحوها، وكأنه لم يفعل شيئاً يحدق في وجهها مستغرباً من سؤالها، وبنظرة تعني الكثير من اللامبالاة يصفر ويدندن مرة أخرى، فتزعق:‏

- طلقني، ما عدت أحتملك!.‏

الرجل الذي يخشى الله، بَسَمَ على دحرجة مشاعرها المسحوقة بَسَمَ بعد أن ترجل عن مروءة الرجال، وخرج إلى زمنه الذي بدأ، تاركاً خلف ظهره وجهاً ذابلاً، وأطفالاً باهتين!!‏

أرهقت عينيّ وعقلي وقلبي وأنا أقرأ تفاصيل الحرد كما في كلّ مرةٍ، صورتها وهي تطوي "بقجة" حاجاتها، وقد بدت مرهقة وهي تحملها، لتقول ما لم تقله من قبل حين تطلق رصاص الحقد :‏

- الله ينتقم منك يا بن الحرام!.‏


يتبع...........

 إبن الفرااات
 07:34 AM
 28.09.06
العزيز أبا باسل نحن معك على الخط فإن لم ترى تعقيب فهذا للهفة المتابعة
تابع يارعاك الله
 علي الساري
 12:42 PM
 28.09.06
الحلقة الثامنة
-------------

أخيراً تركتِ البيت أمي، وبقيت وحدي مع أخوتي، هل كان قدرنا أن نشاهد الشجار كلّ يوم جمعة ؟! على كلّ حال لم أكترث لخروجها ولم أشعر بالحزن والأسف على رحيلها، بدا إحساسي غريباً، يبدو أني ما عدت أفكر سوى بنفسي!‏

شممت رائحة كرائحة النهر حطت على جدران بيتنا فخرجت إلى الشرفة، وقفت بضع دقائق ثم تسلقت على السطح، ألقيت نظرة خاطفة على كلّ المباني والسطوح، ثم أسندت بظهري على حائط مدخنة كانت في يوم مضى صديقة أنس ٍ، وجلست مقرفصاً تُمطرني أسئلة حارقة الصدى !.‏

في هذا الزمن من ذلك اليوم شعرت بحاجة ماسة إلى البكاء ربما على نفسي، الدموع المحتبسة أسبغت على حزني ضيقاً وأرهقتني أهو ثمن الصمت على الصداقة التي تعاهدنا عليها ؟.‏

أمْ هو من ذلك الاعتراف المائع الذي سقط في نفسي راكداً "أنا وأمك تآخينا، ما عادت تنفعني"!.‏

حين تذكرت هذه الجملة قرعت في داخلي طبول الذعر من المجهول القادم، أنا أحقد على أمي لا أحبها، لأنها خلقت في نفسي نحوها صمت الظلام من اليوم الذي أفشت فيه بسر علاقتي مع نوال وتسببت بأذية مشاعر جارتنا يوم طردتها!.‏

أغمضت عينيّ، لا أريد الضوء، العالم صغير وجاف وممتقع الألوان، الكرة الأرضية تطبق على نفسها، تمسح سمات البشر، أقفز عن مكاني فزعاً مثل فزاعة خوفتها الريح فسقطت، لحظة ألقت جرادة كبيرة بنفسها على جيب قميصي فوق صدري، في اللحظة تلك شعرت بالخوف فقلت :‏

- يا إلهي ماذا أفعل؟!.‏

تمالكت أعصابي وتملكت رباطة جأشي وبحركةٍ ما من عصا صغيرة كانت بقربي حملتها، أزحتها بها، فتنحت عن الجيب، و طارت تاركة خلفها قلباً يخفق بشدةٍ.‏

فجأة تحللتُ من صمت الظلام، استشعرتُ حرية من خروج أمي أصبح الجو ملكي، جو اللقاءات السرية، سأفعل ما أريد مع نوال سأغفو وأستيقظ على لذيذ حبي، سأدفن شقاء نفسي على صدرها، لن أخاف من شكاوي أمي إلى أبي وتشويشها على جارتنا، ولن تكون هناك سطوة من أبي على سلوكي مع من أحب وأمني النفس بلقائها أصبحنا أنا وهو أحراراً، ونحن أصدقاء، ألم نتفق ؟!، يا سلام ما أجمل أن تكون حراً، لست أدري لماذا راودني هذا الشعور ؟!.‏

حين نزلت أزعجني أن أرى دموع أخوتي تنسل بصمتٍ وحين رأيت انبثقت من قلبي عاطفة حنان، حملت مازن الصغير، قبلته أجلسته في حضني، راودني شعور غريب في أني سأفتقده، بل سنفتقده جميعاً فأحسست برعدة الخوف عليه وكانت نابعة من حبي له، "تُرى ما مصير ذلك العصفور المكسور الجناح؟!"‏

في هذا اليوم المقيت لم أفكر بالخروج، ولم أفكر بعمل أي شيء حتى هو لم يفكر في دعوتي إلى اللحاق به، فقررت أن أعيش فترة استراحة خاصة، سأحاول النوم ولن يكون هناك ما يعكر صفو النفس التي بدأت تشعر بالحرية من عدم وجود النكد والصياح والشجار وكلمة لا تدوس هنا، البس الصندل، اغسل يديك ورجليك، نشف يديك بهذه ورجليك بتلك،الأخوة هادئون، وفريدة كالملاك لا تحدث ضجيجاً،إذن أصبحت سيد هذا المكان والزمان لهذا قلت :‏

- أنا سأنام لا أريد أصواتاً، أفهمتم؟!.‏

فوق الصمت لاذ الجميع بالصمت، وما إن وضعت رأسي على "المخدة " حتى رحت في سابع نومة كما يقولون!‏

بعد الظهر رنّ الجرس، كنتُ قد استيقظت، فتح الباب أخي ناجي، كانت هي، عجوز المقت تزحلقت نحونا فقلت في نفسي من دون أن أنظر في وجهها، هذه المسيطرة ستجد مالا كانت تحلم به!‏

استقر في حسي أني سأداعبها كثيراً كي تجترع الألم الذي تستحق "أنت أحق من الغريب".‏

المتشدقة بألقاب "الستات"، "ستات" السهر والثرثرة وضعت حاجاتها في خزانة أمي وراحت تتزين بالمرود قائلة:‏

- الكحل العربي مع الليمون يفيد جفون العيون.‏

قالت هذا، واستقر وضعها على البقاء معنا ترعى شؤون البيت كبديلٍ عن أمي، ولأن العيون الدامعة أصابها الاحمرار من شدة البكاء فقد خيّم على أخوتي تردد العويل في أعماقهم داخل هاوية النحيب المغلق!.‏

وبدأت عذابات الصغار تكبر ومعاناتهم تظهر، فأخي مازن الذي صار عمره ثلاث سنوات تعلق بجدتي، بعد أن نسي ترديده كلمة "بدي ماما"، وأختي فريدة أصبحت تقوم بأعمال أمي، ما عدا طبخ الطعام فقد تولته جدتي بمعونة جارتنا أم نوري، وأخواي رضوان وناجي أصبحا مهملين لدرجة تجعل جدتي تترك البيت وتنزل إلى الجيران كي تفضفض عن وحدتها وهموم مسئوليتها إلى الجارة أم نوري، أو الجارة أم فتحي المقابلة لبيت أم نوري، وكثيراً ما سمعتها تبدي استياءً من مقابلة أم فتحي لها بجفاءٍ ذلك أن المرأة تهتم بتعليم أولادها، وتتابع تفوقهم الدراسي بفخر أمام جاراتها، وفتحي وهو كبير أولادها، كان قد صار في الصف التاسع الإعدادي، وأنا قد أصبحت أملك شهادة احتراف في معرفتي لشوارع حلب العريضة وحاراتها الضيقة !‏

حين أذكر ذلك اليوم المشؤوم، أذكر كم كرهت والدي وجدتي، وكم حقدت على أمي !! نعم حقدت على أمي حقداً عظيماً، أنا أختصر الزمن، أختصر التفاصيل، فالتفاصيل بالنسبة لي قشور لحظة، حجة واهية لتبرير الكثير من الأشياء وأنا لا أريد التبرير، أريد تسليط الضوء على جوهر الأشياء وإن كانت مظلمة، فالضوء كان مجرد كذبة خدعة من أصحاب الصناعات، المهم اقتربت من وجهه، تفحصته شعور طاغ أقحمني في بكاء كما النسوة من الجيران، وحين وصله الخبر، خبر موت مازن، دخل يلهث، وحين نظر في وجهه وشاهد الجسد الصغير المسجى بكى بصوتٍ عالٍ وضرب بكف يده رأسه، ثم راح يصرخ في وجه أمه، يلقي بالملامة عليها كلّ الملامة، استشعرت في هذه اللحظة كراهية و أحسست بالغربة " هذا ما كنت تريده أنت وأمك "؟.‏

يحق لي الآن أن أتفلسف، ولأني أريد الفلسفة اسمحوا لي أن أقول لكم أن من صنائع الاستبداد أن يموت الأطفال! وهذا آخر العنقود يسقط صريع فراق زوجين لم يجمع بينهما الودّ والتسامح والصبر على بعضهما !!.‏

كان الباب مفتوحاً وحين أراد ذلك الطير الصغير أن يلحق بجدته إلى بيت أم نوري تعثر على الدرج فسقط على رأسه ليصيبه كسر في الجمجمة جعله يموت في الحال.‏

حين وقع الحادث كنتُ عند السمان أشتري دخاناً، لم يخطرْ في بالي أني سأركض مثل المجنون لأجد أصغر إخوتي ابن الثلاث سنوات مصبوغاً برائحة الدم!.‏

في الطريق إلى المقبرة وبعد أن غسلوه وكفنوه انهمرت من ثقوب قلبي دموعٌ غزيرةٌ وأنا أذكر ملامحه البريئة وصوته الحزين "بدي ماما " أو لنعترف أنه في الفترة الأخيرة صار يقول " نانا تش" معبراً عن رغبته في الخروج معها!!‏

أعارني الدفن أن أعيش لحظاتٍ من الخوف والانقباض وأنا أقف مرتعشاً، هل كان خوفاً من القبور؟ أم خوفاً من كلمة موتٍ وكفن ٍ؟ أم خوفاً من ذلك الشعور الذي راودني من تلك اليد الغائبة الآن، والتي خاطت الكفن لعمتها قبل طلاقها بشهرين!، كنت معها وكانت وهي تخيط الكفن تدمدم بكلماتٍ ما سمعها أحدٌ ولا سمعتها أنا!.‏

قرب قبره ناديتها قائلاً :‏

- انظري هاهم يضعونه تحت التراب، رجلٌ غليظُ القسماتِ لّف أخي بالكفن، وضعوا القطن على عينيه وأذنيه،ألا تريدين رؤية ولدك المقتول والمدفون الآن! مازن رحل،غادرنا بلا رجعة ودون حضورك!‏

سأشتري الضحك عليك بما تبقى من عمري لأراك فقط وأنت تشهقين، تشدين شعرك، تقعين، تحاولين الخروج والجري نحو المقبرة وقد أصاب عقلك مسٌ من الجنون وأنت تنبشين القبر لضمه إلى صدرك كما فعلت جدتي قبل لفه بالكفن!!‏

أسبوع مضى على موت أخي مازن وأخوتي مأزومون تفرج عن كربتهم هذه الحولاّء البدينة التي ما عادت تفارقنا فقد وجدت من توافق مع طباعها في التزاور والثرثرة التافهة في سرد ما لم تنفرد به نفسها.‏

وأنا بحكم علاقتي مع نوال والتي لم تنقطع كان من الطبيعي أن أنتهز فرصة هذه الموّدة بين جارتنا وجدتي كي أحقق منالي من لقاءات الحب والتلذذ.‏

ولكن ماذا حصل مع أبي في مسألة بنت خاله الأرملة ؟ فأنا لم أنسَ أن أتلصص ليلاً وأفتح أذنيّ جيداً لألتقط ما يهمني أن ألتقطه ففي ذات ليلة ماطرة التقطت أذنيّ ما أراح ذاكرتي التي أجهدها التفكير في هذا الموضوع :‏

- بنت خالك رافضة الزواج، قال نذرت نفسها للأولاد.‏

حينذاك ابتسمتُ خلسة وأنا أراه ينسحب إلى فراشه مقطب الحاجبين عابس الوجه لأغرق في نوم ٍ مريح ٍ ومريح جداً.‏

فريدة يا أخيتي لن تفلح زفراتك الحزينة في إقناعه على زيارة ماما من أجل عودتها، ألا تشاهدين حبكة ما تصنعه جدتك؟، قلت هذا في سري وغادرت البيت صباح اليوم التالي!‏

في قنوطٍ حاولنا التأقلم مع هذا الواقع المفروض علينا وكانت الوشيجة التي تشدني إلى السكوت على ما حصل بينه وبين أمي أنه تركني أعيش حراً بلا رقيبٍ، وبلا محاسبة أقضي له بعض أشياء للمحل، ثم أعكف على الدروب المتعرجة مع رفاقي نزور الحدائق، كلّ الحدائق أصبحت تعرفني، وأصبحت أعرفها، ولكن إلى أي حدّ تبلغ بي السعادة فرحها الذي ضيعت من أجله مستقبلي؟.‏

ارتجيت من الأيام أن تمضي على هذا النمط من الحياة لكنّ رنين جرس الباب الذي أفزع الجميع، والذي كان مثل نعيق بومة بصقت بحتف الفرح ثم توارت، كان نذير شؤم!‏

فتح الباب أخي رضوان، ودخلت جارتنا أم نوري، دخلت على غير عهدنا بها، خيلّ إليّ أنا بالذات وأنا أرى وجهها كأني أرى وجهاً لممثلة في فيلم رعب أخافني شكله، كانت مصفرة الوجه معقودة اللسان، منكوشة الشعر، وأول من استقبل وجلها واضطرابها الذي أذعر الجميع والدي فسألها:‏

- خير يا جارة، خير ما الأمر؟‏

بلعت ريقها ثم قالت:‏

- تعيش أنت!.‏

قذفت بالكلمة بتحشرج جعلت قلوبنا تدمع قبل أعيننا، بداية الأمر حسبنا أن من توفي زوجها، وحين استردت أنفاسها بعد أن جلست على الأريكة عرفنا أن المتوفى جارنا في الطابق الثالث!!‏

وكأني مازلت صغيراً في عمر رضوان ابن العشر سنوات اقتربت منها وسألتها:‏

- كيف مات؟‏

تنهدت ووجهها الممتقع أثار خوفي أكثر من أي وقت مضى، وبعد أن بلعت ريقها مرة أخرى قالت:‏

- جلطة على القلب!.‏

قالتها ومسحت دمعة انسلت من عينها، فلم أتردد في أن أسأل ثانية:‏

- هل سيضعونه داخل التراب مثل أخي مازن؟.‏

أجابتني وغصص من الدموع تكاثفت في عينيها ثم هطلت:‏

- كلنا لها، آه الله يرحمك يا أبو محمد !.‏

حين تذكر والدي وجه الرجل، جلس أمامها يسأل كم عمره، وهل عنده أولاد، وهل كان منزعجاً حتى أصابته الجلطة ؟ ثم وبهدوءٍ استدار نحوي بعد أن عرف بعض التفاصيل التي شغلت ذهنه بعض وقتٍ وقال :‏

- " الجار له على الجار حتى ولو جار"، اذهب إلى المحل ولا تخرج حتى أحضر!‏

لن أنكرَ أن حالة ً ما قد غزت حاستي، أثقل قوله هذا كاهلي لماذا لست أدري ؟! المهم أني خرجت، لم أقصدْ طريق المحل، شعورٌ غامضٌ ساق خطواتي نحو مكان آخر فقصدتُ طريق المقبرة، مقبرة "ميسلون"، زرت قبره، ألقيت بقائمة أحزاني عند شاهدة رأسه من دون أن أبكي، وعدت إلى وظيفتي التي أعمل فيها بلا أجر، لأني آنذاك قد اعتدت أن أمدّ يدي وقتما يحلو لي، منتظراً مجيئه.‏

كلما شممت رائحة النهر تجري في ذاكرتي تساورني نفسي في أن أمدَ يدي إلى درج الغلة، آخذ ما يفي بحاجتي ثم أغادر حين يحضر!.‏

بعد خمسة أيام ٍ من وفاة جارنا الذي لا أعرفه لأني لم ألتق به، كبر تعبير الاحتقار مقتاً في دوائر روحي وعقلي وأدركت حينئذٍ أني لو أستطيع قتل أحدٍ أو سرقته لما وجدت غير أبي وجدتي، حاولت في تسكعي أن أنسى بعض الوقت أجاج الغليان المستشيط لعنة ورجمة في تلافيف ذاكرتي فجدتي محطة الأوصاف السحرية جعلت الصنّارة تغمز، ففي المساء كانت تجلس قربه وتسهب في وصف الأرملة من ناحية شكلها وحسن خلقها وصبرها على محنتها، وما استلفت انتباهي بعد عدّة الأرملة وهي أربعة شهور وعشرة أيام هذا التزاور وتلك السهرات التي كانت تطول إلى ما بعد منتصف الليل، فالرجل طلب يد الأرملة وأصبحت خطيبته من دون علمنا.‏

حين علمت من نوال بسر هذه السهرات لم أنمْ في تلك الليلة أصابني ما يصيب أهل الغابة من خسوف القمر، فجلست أنتظر عودتهم وأنا أدخن، كنت أدخن السكائر بنهم غير طبيعي، فالجراح المتغلغلة في صدر المغلوب على أمره كانت تجعلني أنزف بسكون داخلي، وحين تأخر الوقت ولم يحضروا، خرجت من المنزل ورحت أمشي في الشوارع المستقيمة والمنكسرة، حتى وصلت ساحة "سعد الله الجابري".‏

في تلك المنطقة بدأت ألف وأدور، أجلس على الرصيف تارة وتارة أخرى أتجول حتى وجدت نفسي داخل سيارة جيب سارت بي مع خمسة أولاد، ثلاثة منهم في مثل عمري والرابع أكبر، والخامس أصغر.‏

في القسم سألني الضابط المناوب :‏

- اسمك؟‏

- غالب عبد الوكيل الدليل.‏

- أين تسكن ؟‏

- في حي الميدان‏

- أين؟‏

- قرب دار العجزة‏

- هل تعمل ؟‏

- نعم، أعمل مع والدي.‏

- ما عمل والدك ؟‏

- صاحب محل.‏

أصلحت من جلوسي وملت برأسي نحو الأسفل وسألت نفسي : "هل كان من المفروض عليّ أن أكذب عليه، كي لا أتورط بإضافة دائن جديد على دفتر أبي؟ ".‏

حين استدّل رجال الشرطة على مكان المحل وأخبروا والدي بوجودي في قسم باب الفرج رفض التعرف عليّ وأخبرهم أني لص أسرق الغلة وأتسبب بفضائح مع بنت الجيران، وهؤلاء الذين عادوا وفي أيديهم هدايا للبيت وللأولاد كتبوا في المحضر أن الوالد يتهم ولده بالسرقة لأجد نفسي مساء ذلك اليوم الماطر سواداً في دار الأحداث !!!.‏

ثلاثة شهور قضيتها في الدار، تعلمت فيها الأشياء الكثيرة وشاهدت فيها الأشياء الكثيرة، وحفظت فيها الوجوه البائسة واليائسة من الدنيا وحين زارنا المرشد الاجتماعي لفت انتباهه بريق عينيّ، وحين أزعجته ضحكتي النافرة طلبني إلى غرفة الملاحظة، وحين سألني الأسئلة التي ذكرت، وحين اتصل بوالدي وأقنعه بضرورة التخلي عن شكواه واتهامه خشية من تأزم الموقف أكثر، وحين تنازل الوالد عن حقه جاء لزيارتي وهنأني على خروجي وطالبني في البحث عن عمل ٍ حسب ميولي قائلاً لي:‏

- أنت ولد حاذق، نظيف العقل وتحتاج إلى شغل نفسك بما يتناسب مع امتيازاتك، مدير الدار يشكر فيك نباهتك في تعلم صنعة النجارة بزمن ٍ أدهش معلم الحرفة الذي يعمل لصالح الدار، وهذا كله دليل شطارتك وعليك ألا تفوت الفرصة ولسوف أزور أبيك كي أسأل عنك لأطمئن أن وساطتي ونظرتي كانت في محلها.‏

الرجل قبلني من رأسي وهو يودعني، ووالدي لم يقبلني وأنا أخرج معه من الدار بعد غياب ثلاثة أشهر وخمسة أيام ٍ.‏

حين خرجت من الدار وذهبت معه إلى المنزل التف أخوتي من حولي فرحين بعودتي، ما عدا جدتي التي تجهم وجهها وبدت لي في ذلك اليوم كأنها خائفة من شيءٍ ما !؟.‏

المرأة معها حق في أن تخاف وتضطرب فولدها قد تزوج من الأرملة، في غيابي الرجل تزوج، وهي زغردت، وفي غيابي بكى أخوتي كثيراً، والآن ألا يحق لي أن أبدأ المعركة، معركة الأخذ بالثأر حين سمعت بالخبر الذي ثقب أذني ساخناً شعرت بنفسي أتحول وبالمدينة نائمة وبفحيح الانتقام يحتجز أرقي وجفوة نومي من دبيب الصور في تلافيف ذاكرتي!!.‏

وحين تحركت الديوك بالصياح، خرجت من المنزل وزحفت نحو سوق الجمعة، كانت هذه هي المرة الأولى التي أمشي فيها في سوق مكتظٍ بالناس على هذا الشكل، هابني زحام البائعين بتلاصقهم الحزين في أصوات متداخلة مضطربة مضطرمة.‏

على طرفي الطريق كانت الباعة تصرخ، تنادي، تلتقط الزبون، وكنت أفتش عن بائع يبيع السكاكين الحادة، فجأة برق في ذهني العدول عما جئت من أجله، فرجعت إلى المنزل حوالي العاشرة!‏

فرح أخوتي حين شاهدوا ما أحمله في يديّ وأنا أدخل عليهم وربما كانت المرة الوحيدة في حياتهم التي جعلتهم فيها يبسمون على هذا الشكل بعد طلاق أمي وموت مازن وزواج أبي!.‏

ورغم الحزن في نظرات الطفولة فقد اقترب ناجي من الحمامة البيضاء، مدّ يده كي يمسها، ارتعش، ثم ابتعد باسماً فضحك الجميع ما عدا جدتي التي ظلت واجمة يكسو الاضطراب ملامح وجهها.‏

ولأني عدلت عن شراء سكين للذبح واشتريت حمامتين فقد ألقيت خطبة داخل سكون قلق روحي المظلمة قائلاً من دون أن أحرك شفتيّ :‏

" أخوتي سامحوني، لا تراقبوني، لا تنظروا، فشيطان الانتقام يزمجر في داخلي بزمجرة تسدّ نوافذ إنسانيتي كلّها سأكون الآن أحد أبطال فيلم حقيقي، ينفذ مشهداً حياً"، وبقبضةٍ جنونيةٍ حاقدةٍ شديدة اللؤم أمسكت بعنق الحمامة البيضاء ولويته بعد أن صرخت:‏

- هكذا تكون الحياة!.‏

علا صراخهم فجأة من الرعب الذي انداح في قلوبهم فبدؤوا يصرخون بلوثٍ مثل المجانين، وأنا مغتبط النفس على صياحهم وارتجاف أيديهم، يفترسني ذلك الفرح الذي أثار ذعر جدتي عندما ألحقت بالحمامة البيضاء السوداء أيضاً!!‏

الأبيض والأسود ماتا، أيهما أبي؟ وأيهما زوجة المرحوم جارنا؟ أيهما جدتي ؟ وأيهما أمي ؟.‏

اثنان لأربعة وأربعة في اثنين، عملية حسابية غير معقدة لا تحتاج إلى حل حسابي !.‏

تركتهم في ذهولهم ضاجين بالبكاء، وخرجت بعد أن صفقت الباب بعنفٍ ومضيت نحو الحديقة العامة.‏

كنتُ غاضباً لم أرتو مما فعلت، وكنتُ بحاجةٍ ماسةٍ إلى شخص ٍ يشبه إلى حدّ ما المرشد الاجتماعي لأقص عليه فعلتي التي لم ترو ظمأ الحقد الذي كان يغلي في داخلي، لم أكن بحاجةٍ إلى واحدٍ من الشلة لكنني وجدت أحدهم يتسكع كعادته، فناديته، استدار نحو صوتي واقترب مني، تصافحنا كما يفعل الرجال ثم سألني:‏

- ما بك؟ تبدو متوتراً أصفر الوجه!.‏

حكيت له ما فعلت، علني أزيح كابوس الحقد، أصابه الذعر من قوة أعصابي ومن فعلتي الدميمة!، فأكبرت فيه أن يعترف أني شديد البأس قاسي القلب!.‏

كالعادة بدأنا ندور في الحديقة، نجلس تارة، ونمشي أخرى حتى وصلنا ناحية الباب الذي يطل على شركة الكهرباء فسولت إليّ نفسي بسرقة امرأة كانت تعبر الرصيف لتدخل من باب الحديقة، فغمزت صديقي، فهم عليّ، بسرعة خطفت محفظتها وجريت، تسلق صراخها أوجاعي، زاد من تدفق أحزاني وأحقادي، فأسأل نفسي أي ذنبٍ اقترفته هذه المطمئنة في سيرها لأخطف محفظتها وأجري يلازمني في الركض رفيقي علي، بعد أن ابتعدنا عنها المسافة التي ما عاد صياحها يصلنا!!‏

بعد النزول من منعطف شارع المحطة، مشينا بهدوءٍ باتجاه الحديقة الصغيرة خلف مباني منطقة محطة بغداد، فتحنا المحفظة، لم نجد فيها سوى مئة ليرة وبعض أشياء تافهة فرميت بالمحفظة على الأرض، تابعنا المشي على رصيف جامع التوحيد ونحن صامتان، كان بائع الجوارب يمدّ بسطته وبائع الكتب يجاوره، أعطيت علياً المئة ليرة وتركته، ومضيت وحدي نحو حديقة ميسلون.‏

قبل منتصف الليل عدت إلى المنزل معكر المزاج ورائحة النهر لا تغادر ذاكرتي، وكيف تغادرها وغيظي من جدتي وفعلة أبي بزواجه يُدوي في صدري مثل قنابل في صحراء خاوية!.‏

تلبسني الأرق، تركت الفراش وصعدت إلى السطح، المداخن تحت ضوء القمر عرائس ترقص أمامي، تتعرى، استللت سيكارة من علبة التبغ، أشعلتها، ورحت أنفث الدخان، أمتص دخان السيكارة، أنفثه، يحلق في ضوء القمر مثل جنية، أضغط بشفاهي على السيكارة، أضغط عليها بأسناني، أقضمها كأنها شفاه نوال، الكون من حولي كله يجتمع في السيكارة،أرى فيها نوال، ألمس صدرها، أعتصره، وأنا أمتصها، أرفعها إلى أعلى، تنتصب بين أناملي، النار في رأسها تتقد حمراء لاهبة، نارها تسري في عروقي، تشتعل أعضائي، تلتهب، أطفئها، أدوسها بقدمي، أسحقها.‏

أرجع إلى الفراش أنام، أحس أني فعلت شيئاً ما.‏

صبيحة اليوم التالي استيقظت عند الضحى يأكل الإرهاق روحي، وحين رأيت وجهها استعذت بالله من هذه النظرة المريضة فتجاهلتها وأنا أكتم في داخلي حقداً لابدّ وأن تتجرع منه الألم الذي تستحق!!‏

نهضت أجتر قوتي بصعوبةٍ، اقتربت من آلة التسجيل، ضغطت على مفتاح الصوت، دورته حتى النهاية، فرقع الصوت بأنغام "الديسكو" التي يروق لي أن أستمع إليها، كانت الموسيقا صادحة ؛ هذا ما أريده، هيا يا أولاد، هيا سنحتفل اليوم، سنبارك زواج البابا، كنت غائباً يوم تزوج، ولن أنسى أن أبارك له، هيا سنرقص معاً !!.‏

أرعدت الموسيقا في حيطان البيت، نظروا نحوي، بدأت أرقص، تكهربت أعصاب جدتي، زجرتني، وبختني، توبيخها أزعجني، لكني لم أكترث، لن أبالي بتهديدها:‏

- سأشكوك، ولن أسكت على أفعالك!.‏

استلقيت على الأرض وبدأت أهز جسمي، أحرك عضلاتي، يديّ رجليّ، يا للفرح!، انضم أخوتي إليّ يشاركوني الرقص ووجهها الممتقع يزداد صفرة عندما أجعل رجليّ تواجه مكان وقوفها متخشبة كأن صاعقة مستها، بودي أن أؤذي كبرياءها كما آذت مشاعرنا!.‏

الرقص لذيذٌ وممتعٌ، ما ألذ متعته في منزل مسكون بالقهر والهجر والضياع!، ما أجمل أن تكون ملك الضجيج! تتوافق مزاجية حركاتك مع أوتار الآلات الموسيقية، وقائد الفرقة بإشارة من عصاه يعطي التعليمات ( اقتل السوداء، احرق البيضاء، بقوةٍ اضربْ، اعزفْ ضرباً، لا، حنواً، أخيتي ارقصي، هزي الخصر بلين ٍ تعلمي فن الرقص لتكوني بارعة تفوق في رقصها أبهى راقصات العالم!.‏

في السلم الموسيقي علامات هامة تشكل"نوتة" يعتمدها العازف في إيقاعه، وحين تتدحرج الأنغام في خلاياه وقد انداحت مثل بلسم، يهيم في عزفه وهو منخرطٌ انخراط الخلايا في الجسد، يتصبب عرقاً، لا يصحو من انغماره في ملكوت جوانيته حتى يتوقف عن العزف!.‏

في هذه الدقائق الصارخة دخل علينا فجأة، لم نسمع صوت المفتاح وهو يدور في القفل، وبغضبٍ من تسلط النقمة والسخط صرخ فينا:‏

- ما هذه الضجة؟ قلة أدب، هذا الذي كان ناقصاً !.‏

نظرتُ في وجهه بالقسوة ذاتها، هارباً من نظراتي قال:‏

- مساءً سأمر وآخذ المسجلة.‏

قالت أختي:‏

- ونحن بماذا نتسلى؟.‏

اجترعت كأس القهر من ردة قولته:‏

- بلا قلة أدب!.‏

الآن واليوم بالذات وبعد هذا الحدث الشيق أعتقد أن عدة الصداقة قد انتهت مدتها، انكشفت براعته في كسب مودّتي بعض الوقت، هاهو يجرني وراءه مثل أضحية العيد، يتركني داخل المحل، وبادعاءٍ فيه كذب ما عاد خافياً على ذاكرتي يقول:‏

- لن أتأخر سأقابل التاجر وأعود على الفور!.‏

حين تركني ومضى، ضجت في داخلي سخرية حادة، مؤكد أنه اشتاق إلى رائحة جسدها، الرجل ما صدق! رائحتها مسكونة في عينيه كما تسكن رائحة النهر في ذاكرتي !.‏

صدق حدسّي، الرجل تأخر، ولأني أردته أن يعيش لحظات غيظٍ مزعج ٍ، فقد استشعرت فرحاً خفياً وأنا أراه يصرخ فور دخوله المحل:‏

- ما هذه الرائحة؟... أفْ... هل تبرزت هنا؟ ابن "الشرمو" وابتلعها!!‏

حدجته بنظرات تقتص منه وشائج اللذة التي سكنت في داخله وبهدوءٍ بارد ٍ قلت:‏

- أصابني مغصٌ شديدٌ، لم أحتملْ ضبط نفسي، والجامع كان مغلقاً فاضطررت إلى أن... !‏

- الله يأخذك، ولد وقح، هيا،انصرف من وجهي " اتفوووو" !.‏

هززت رأسي ولويت رقبتي وأنا أخرج، فاحتضنت نظراتي القطة والرصيف، وخوف غامض تلاعبت به أوتار قلبي وعقلي في ذاكرة سكنتها رائحة النهر وأنا أسمعه يقول:‏

- تدبرت لك عملاً، غداً ستعمل في ورشة خياطة بالسيد علي.‏

المركب المثقوب ابتعد عن الشاطئ، تأرجحت من تسرب المياه هيبته، ما عاد يعنيني وجوده، اسمه، كلّ شيء فيه مال نحو التلاشي وكيف لا يتلاشى وهو كلّ مساءٍ يمر مرور الكلاب، يعوي ببضع كلماتٍ، ويقذف في حضن أمه فتاتاً من الغلة المعدنية، ويسارع إلى غرفة الهناءة في حضانة متعة الجسد الذي ُحرّم منه طوال أربعة عشر عاماً في معاشرته لأمي أما قال لي:‏

- أنا وأمك تآخينا!.‏

ولأنه تآخى مع أنانيته، تحولتُ أنا إلى ذئبٍ صغيرٍ شرير ٍ!‏

بلا مراوغة وبلا نفاق لا تأخذ من المتع المباحة أي شيءٍ، لهذا كان عليّ أن أستمر في تمثيل دور المحب الوله لأحقق مبتغى روحي في لقاءاتٍ من التلذذ ضمن فراغ الدرج وسط الظلام! وأمها هذه المعتوهة والتي كانت رهينة سهرات جدتي، خاصة عندما يكون عمل زوجها مسائياً لا تسأل عما إذا كانت بنتها داخل البيت أمْ خارجه! لهذا كانت تمارس مع من أحبت طقوس الحب !.‏

نفذ قوله بالإكراه بعد أن تدبر لي العمل في ورشة خياطة كما قال، حينئذٍ كان لابدّ من اللعب على طريقتي، حتى دخل علينا كمن كان في عراكٍ مع الأبالسة، نظر في وجوهنا تفحصها، أشعل سيكارة حمراء طويلة، سارعت أختي ووضعت المنضدة الصغيرة أمامه.‏

جلست جدتي أمامه تكاد أن تلتصق به، أدركتْ أن في الأمر شيئاً خطيراً يخصني، وبعد هدنة من الصمت والفحيح انطلق صوته كما الترياق من فم أفعى:‏

- ولا... ك... ابن الكلب... أين كنت يوم الأحد الساعة العاشرة مساءً في حي الشيخ مقصود؟.‏

شعرت بأرض الغرفة تدور، هوت بي أفكاري إلى بئرٍ مهجورٍ تعج فيه وطاويط الليل " من أين عرف أني كنت هناك؟ من أخبره؟ "‏

ومن دون أن ترف عينه، كرر السؤال بصيغة أشد قسوة!.‏

حلفت كذباً واستنكرت ما ذكره، وحتى لا يفقد توازنه في لحظة غضبٍ ونفورٍ، وحتى لا يبدو أكثر تفاهة مما مضى، نهض من مكانه شدني نحوه وهو يسألني بلهجة المحقق الغاضب:‏

- قلْ الحقيقة، لن أضربك، فقط احكِ الصدق؟.‏

الجواب عن سؤالٍ كهذا كان يحتاج إلى خلوةٍ انفراديةٍ بين أب وولده، أيعقل أن يكون غبياً إلى هذه الدرجة؟ أمْ أنه يحاول الإشهار بي كي تسقط مسؤولية جنحتي الشائنة عن هويته؟!.‏

وقتئذٍ ضحك القلب ساخراً من غرابة موقفٍ كهذا، وكدت أصرخ وأنا بين ساعديه، أحاول الإفلات لأرقص، لأخطب بين الناس، من سيسأل من؟ هل أنت أبٌ؟؟ أتخاف على اسمك من عورة أفعالي ؟ يا رجل لا تقلها كي لا يضحك الناس عليك! القلب المسفوك دمه يضحك بصمتٍ، من المتخلي؟ من طلق المرأة التي تآخى جسده مع جسدها كما قال بتعسفٍ مخجلٍ لا يليق بإنسان يدعي الأبوة؟!.‏

الحقيقة الظاهرة بعري قهرها المتعري علانية تقول غير هذا وتجعلني أشعر أن الصدأ النتن قد خيم على ذاكرتي، ولا بدّ من وجود فرصة للمواجهة من أجل القصاص، وقبل أن أفكر بطريقة تتناسب والقصاص، وبالجملة المباغتة التي تخترق صدر الأبوة النائم على النأي والهجران، جاءتني صفعة جعلتني أدور، كادت الرؤية تتلاشى ودون أن التقط أنفاسي توالت لكماته وصرخاته ولعناته، فأحسست بالصوت يئز في رأسي مثل رصاص ٍاندفع من قلب رشاش ٍ، وجدتي الصاغرة كلّ الذي فعلته أن قالت:‏

- ياعيب " الشوم "!‏

وأخوتي المتكورون كانوا مثل أوراق ٍخريفيةٍ ذابلةٍ يذرفون الدموع بسكون ٍتحترق من أجله القلوب!.‏

رغم الإهانة من تصلف هاربٍ متخلٍ عن اسمه في وجوده ووجوده في اسمه، ورغم الضرب المهين تحركت رائحة النهر في أنفي، فأيقظت ذاكرتي، فاستغربت مستهجناً صمت جدتي تلك التي كانت تتحدث بلا نهاية في زمن أمي!، وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي آثرت فيها عدم التدخل كي لا تصاب بالجنون مما أفعل بها بعد مغادرة أبي!.‏

أبو سليم شاهدني وأنا أخرج من البيت الذي كان يقصده هو الآخر! الرجل كان يخون زوجته وفي هذا لا يحق له أن يعتدي على حقوق غيره، لهذا أضرمت في صدري الحقد عليه، وأقسمتُ أن أرد على وشايته إلى أبي بإفشاء سره إلى زوجته ولكن في الوقت المناسب!.‏

بعد خروجه، أسلمت جسدي المنهك إلى الفراش، فأحسستُ بالآلام تنغلُ في جسدي، جاهداً حاولت النوم، وحين نمتُ دخلت في عالم الأحلام،عالم لا تقدر أن تتحكم بقدراته، ولا حتى يمكنك أن تخطط لصورته في شيءٍ تشتهيه، فالذي يحصل وتراه ُيكتب رواية وهو في الحقيقة ومضة من عقل الحركة، العقل الذي ينقلك إلى عالم ٍ خاص ٍ ترتبط رؤاه الناطقة بأحاسيسك الباطنية لتشارك شخوصاً لا تعرفهم أو قد تعرفهم، هذا الكلام قرأته في مجلة عربية كنتُ قد اشتريتها من بائع "كشك" يوم عدتُ من البحر ؟!.‏

في تلك الليلة الماطرة بالوجع المتمترس في الذاكرة شاهدت نفسي في صحراء خاوية، تلال رمالها الصفراء أثارت الذعر في قلبي كانت صفرتها فاقعة، ولا يوجد أحد غيري من بني البشر، أمرٌ مخيفٌ أن يجد الإنسان نفسه في مكان ٍ يشبه ذلك المكان وحيداً، فجأة انكمشت الأرض من تحت قدميّ واربدت السماء، صفر الهواء معلناً عن هبوبِ الرياح العاتية، فتكورت على بساطٍ من الرمال، تكومت سحبٌ رمادية ٌ تميل إلى الدكنة، ثم تساقط من السماء ما يشبه حبات البرد الكبيرة كما الحجارة يوم حادثة الفيل، كانت تجرحني وتسبب لي النزف، اصطبغ جسدي بلون الدم، فأحسست حينذاك بأني أفقد قوتي، وحين حاولت التحرك انشقت الأرض، خرج منها رجل قسماته مخيفة، كانت رائحته تشبه رائحة النهر، انقض مثل فيل على ظهري، وأمسك بأظافره الطويلة والتي شعرت بها وسخة بتـلابيب منكبيّ وراح يشدني نحو حفرته وهو يضحك بصوت كأنه جأر ثور، حاولت الصراخ وأنا أقاوم من أجل خلاصي من بين يديه، لم أجد عوناً لا من حنجرتي ولا حتى من قدرتي على المقاومة، حتى الأنين غاب صوته، فتراءى لي وجه أمي وهي تصلي، وحين تذكرتها وصلتني أصداء بسملة هل كانت تصلي من أجلي ؟ اقترب الصوت من أذني، ورويداً رويداً تراجع ذلك الرجل المخيف، دفعني بقوةٍ على الأرض وغاب عن ناظريّ فوقعت فوق كومةٍ من حبات البرد الباردة الجارحة، وحين فتحت عينيّ وجدتُ نفسي على الأرض أرتعش !‏

عدت إلى فراشي وانطويت تحت اللحاف لا أريد رؤية الوجه الممتقع دائماً، ولكن ما هذا الصباح المقيت ؟ ماذا تقول هذه الشوهاء البدينة؟ من الذي أخبرها أن أمي، أم غالب تزوجت من زوج أختها المتوفاة، وبعد أسبوعين ستسافر معه إلى روسيا!.‏

لن أضحك، ولن أرقص، جدي حريص على سمعة بنته، ولم يكن حريصاً على إيوائنا تحت جناح أمي، حين تدخلت الجارة أم نوري رفض جدي عودة أمي، وأصرّ على طلاقها قائلاً :‏

- التفاهم صار صعب، والأفضل أن يذهب كل واحد في سبيله !‏

اليوم بالذات وبعد سماع ما أكره، أصبح في داخلي انتماء إلى شخص سكن ذاتي، فشعرت حينئذٍ بأني أتحصن بالقوة الباردة، لأنهض متململاً، ومن دون أن أغسل وجهي أو أفكر حتى بتغيير ملابسي، أفتح الباب وأصفقه خلفي بعنفٍ وأخرج!.‏

كانت شوارع منطقة "ميسلون" تعج بالناس،خاطبت نفسي "من أنا وسط هذه الجموع ؟، وإلى أية فئة من البشر أنتمي؟" وحتى أعرف وأحدد جاءني صوت من خلفي:‏

- هيه، إلى أين؟‏

- أهلاً، إبراهيم!‏

- كيف حالك ؟‏

- بخير.‏

وبفطنة الحاذق سألني :‏

- سمعت أن أباك تزوج؟!.‏

أزعجني أن يعرف من أغار منه، أجل أنا أغار من إبراهيم الشخص الوحيد الذي أشعر أمامه بالنقص هو إبراهيم، ما من مرة التقيت به إلا وأحسست به يترصد وقائع حياتي ليشمت بي، ولأن موقفي ضعيف، فقد هززت رأسي والأسى المبتئس يزين ملامح وجهي وقسماته،وهرباً من نظراته وأسئلته المجهضة، ومن دون تفكير مسبق ٍ قلت :‏

- ما رأيك برحلة؟‏

- إلى أين؟.‏

- إلى البحر!.‏

لحظات مرت قرأت فيها التردد والتململ، ثم واستعداداً باستقبال الفكرة التي جعلته ينشط في الحديث قال:‏

- أجادٌ أنت فيما تقول؟!.‏

- بكل الجدية التي عرفتني بها!.‏

- طول بالك، دعني أفكر.‏

- لا وقت عندي، أريد قرارك الآن.‏

- لمَ؟‏

- خصوصيات يا أخي.‏

- موافق ولكن تريث حتى أقبض أجرتي.‏

- ---------------‏

- ---------------‏

- الساعة السابعة في محطة القطار، لا تتأخرْ، سأكون في انتظارك.‏

يتبع......

 الشويطي
 05:41 PM
 29.09.06
تسلم ايدك يا ابا باسل على هذا الجهد

تقبل تحياتي
 دموع
 12:18 PM
 30.09.06
علي الساري يسعد صباحك من الله

اعذرني يا الساري بعدم وضع تعليق بعد كل حلقة بس عنجد قصة غاية في الروعة وكل ما بقرأ فيها بحاول اتذكر اذا كان في مسلسل قد عرض مثل هذه القصة والله لأ .
ولكن تخونني الذاكرة وأتأكد انني لم اشاهد مثل هذه القصة لا في الافلام القديمة او المسلسلات الجديدة والقديمة معا .

فقصتك يجب ان تكون مسلسل اجتماعي وبحث يقتدى فيه الجميع لما شاهده غالب بطل روايتك من المآسي والظلم الذي تعرض له هو ووالدته واخوته الصغار .

عنجد يا الساري رواية فظيعة بتمنى لك كل التوفيق والسعادة .

تحيــــــــــــاتي القلبية لك


دمووووووووع

 علي الساري
 02:32 PM
 30.09.06


الحلقة التاسعة
----------------

التسكع جعلني في ذلك اليوم أبدو كأني ولدت من جديد، لم أعدْ معتل المزاج، اكتشفت شخصاً آخر، نفسه تشبه نفسي وبسخطٍ فرح ٍ قلت لنفسي "اضرب ضربتك القاضية، واترك الطوفان يهدم من وخزك!".‏

رائحة النهر أقنعتني أنه من المفروض عليّ بعد هذا اليوم أن أخون الرجل الذي أكره، لأفسد عليه نظام حياته الجديد، بعدما أفسد علينا رباطنا القدسي.‏

حين قررتُ أن أفسد عليه حياته، راقبتُ الحارة، كنتُ محتفظاً بنسخةٍ من المفاتيح، لم أكن مثل لص وضح النهار والذي تركني أصدقه وأنتظره، والذي أوهمني أن زوجته موجودة في الطابق الرابع ولا تستطيع التحرك بسبب الحمل!.‏

الرغبة في الانتقام تزداد إصراراً في نفسي، ورغم أنها رغبة منحطة وقذرة لكنها الحقيقة، الحقيقة التي امتدت جذور رداءتها في نفسي وروحي فقد تأصلت في داخلي بعطش ٍلابد من إشباعه.‏

فكرة السفر إلى البحر فكرة جذابة ومريحة ولكن مع أهلك، فمن غيرهم الحياة جافة ومدقعة، وعلى الرغم من اعترافي بأن الحياة بلا أهل يسامرونك وتسامرهم لا معنى لها، فقد تمردت على الاعتراف بوجودهم لأخذ رأيهم لأنهم موجودون وغير موجودين! وأنا لا أعرف البحر، ولم يسبق لي زيارته، وقد تأتت معرفتي له من دروس الجغرافيا في المدرسة، لذلك فكرت بزيارته!‏

في ظل هذه التخاطرات المقلقلة والمؤنبة في بعض الأحيان، تحولت إلى عدو ٍ كاسر ٍ يريد أن يسلب الطمأنينة من عين والده!.‏

لم أنمْ في هذا المساء، ولم أذهبْ إلى البيت، بقيتُ واقفاً أراقب الحارة مثل نمس ٍ، حتى تأكدت أنها دخلت في سباتٍ هادئ ٍ وعميق ٍ وبإلحاح ٍ من رائحة النهر تحكمتُ في وجيف القلب، ثم اقتربت من قفل "الدرابية" وبصعوبة حركت القفل وفتحته، وابتدأت في رفع "الدرابية " بهدوءٍ، حتى كادت تدمى يديّ، ألهبت جسدي بالعزم على الزحف مثل أفعى! دفعت باب الألمنيوم، لأني كنتُ على يقين ٍ بأن قفله ما يزال عاطلاً !.‏

في الداخل لم أتأخرْ، وفي الخارج الاختفاء في الجامع داخل دورة المياه لم يرقْ لي، بحثتُ عن مكان ٍقصي ٍأرتاح فيه من الوقوف، فأعصابي بدت مجهدة ومضطربة. فخطرت لي فكرة، حملت قطعة كرتون كانت مرمية على الأرض واعتليت فوق ظهر سيارة"سوزوكي"، غطيتُ جسمي بها ورحت أنتظر بزوغ الضوء.‏

وقبل أن تتحرك الطيور من أعشاشها تحركت أنا وابتدأت المشي ببطءٍ باتجاه المحطة !.‏

داخل القطار شعرت بالانقباض، ثمة إحساسٌ بالغبطة راودني، داهمتني مشاعر النشوة وأنا أتصوره كمن لدغه عقرب يصرخ:‏

- "الحقوني"، خرب بيتي، الغلة مسروقة، والسندات طارت، السندات التي تؤكد على إني أدفع!.‏

من رافقني لم يستطع الصمت، أخرجني صوته من غرق الشرود لأنه طلب مني وبوجهٍ ضارع ٍ أن أتحدث إليه!‏

اعتبر شرودي جفاءً مني وإهانة لشخصه، فتملكني شعورٌ غريبٌ بأني أصبحت محترفاً في كلّ شيءٍ، لا أختلف عن لص وضح النهار ومراوغة أبي لزبائنه !!‏

في تلك اللحظات من القلق والاضطراب ارتسمت داخل روحي صورة الذي خدعني وجعلني أنتظره، ولكن بوجهٍ جديدٍ!‏

هذه المرة لم يكن وجهه يملك هذه الوسامة التي دخل بها عليّ كان مصبوغاً بزرقةٍ تميل إلى الصفرة، أوداجه متورمة، ومنكباه كمنكبي من أثقلته السنون بالبؤس والقنوط.‏

حين انكشف أمره بعد إلقاء القبض عليه، اعترف بكلّ السرقات للمحلات التجارية الصغيرة والكبيرة وبالطريقة ذاتها!!.‏

وحين دخلوا علينا لم يكن والدي قد اكتشف بعدُ أن البضاعة ناقصة، لأنه كان غارقاً مع كاترين التي أصبحت سيدة المحل، الفتاة سلبته عقله وكلّ حساباته، و لحظة دخولهم في توجيه السؤال:‏

- أنت صاحب المحل؟‏

أجاب:‏

- نعم أنا.‏

وحين عرف، ثارت ثورته عارمة جارفة، وبدلاً من أن يصغي إلى حديثي في خوفي، وخوفي في حديثي راح يضربني، ويسبني كعادته، بعد عودتنا من قسم الغريزية، حتى أدمى وجهي، وأسكر ذاكرتي في اختزانها لرائحة النهر.‏

في هذه اللحظات من الذكريات المريرة ضبطت نفسي حتى لا أثير شكوك إبراهيم في صمتي العميق فضحكتُ متملقاً جلوسنا هكذا أخرسين وأنا أتكلف في الابتسام فمسكته من يده بعد أن وقفت وهيأت نفسي لفعل شيءٍ ما!!‏

كنتُ أسمعُ صوت سرعة العجلات الحديدية تدك السكة دكاً سريعاً لكأنها تسبق الزمن الذي بدا لي أنه مرهق وثقيل وطويل.‏

داخل العربات تفحصت الوجوه، فما وجدت من أعرفه لا من زبائن أبي، ولا حتى من أهل حارتنا، أو حتى من أصحاب الدكاكين المجاورة لمحل أبي، فشعرت بالطمأنينة.‏

مع بداية القساطل دخلنا في نفق ٍ جبلي ٍ، شعرتُ بسرعة القطار تزداد قوة، وبالعتمة تمزق أنفاق قلبي المضطرب، لأحسّ بالضيق يكتم على أنفاسي حتى تنفرج الظلمة!!‏

وكأنه كان يريد أن يكون أفضل مني في معرفة بعض الأمور الحضارية، التفت نحوي وبلهجة لا تشبه إلا نفسها قال :‏

- حين نمر فوق الجسر المحمول على أعمدة ضخمة سأحدد لك العمود الذي وقع فيه ثلاثة خبراء من روسيا، وما خرجوا!.‏

حدقت في وجهه دهشاً واستعرت من ذاكرتي اللزجة سؤالاً مهماً كي لا أبدو أمامه جاهلاً فأمقت نفسي:‏

- وروسيا ماذا فعلت؟.‏

- لم تفعلْ شيئاً، فالأمر كان قضاءً وقدراً.‏

وكأنه كان يؤمن بالفلسفة الوجدانية أكثر من إيمانه بالسخرية السخيفة الساذجة تابع كلامه قائلاً وهو يحرك سلسلة مفاتيحه:‏

- أنا وأنت مثلاً ألسنا مخطئين ولا نعرف عمق الخطر من الحماقة التي نمضي إليها!.‏

رمقته بنظرة فاحصة جافة تشبه لزوجة الطقس ولزوجة ذاكرتي الشاب يتفلسف، من أغار منه بدأ في فلسفة ما لا أعرف، ولأن فلسفتي محلية فقد قلت له:‏

- لا، لسنا مخطئين ولا تستخف بقدراتنا، فنحن ضحية أسر لا تفاهم فيما بينها لهذا تجدنا على هذا الشكل، دعنا نعش بعض الوقت بعيداً عن القوانين التي تشوش علينا امتلاكنا للغبطة التي نسعى نحوها، ولو لمرةٍ واحدةٍ في العمر!.‏

وتملصاً من فلسفته تركته واقفاً أمام النافذة ورغبت في النوم!‏

كانت فكرتي في السفر إلى البحر جريئة وغير متوقعة، وحين وصلنا هزني من كتفي، ففتحت عينيّ. كنت ما أزال واهناً، وبحاجة إلى النوم، نزلت من القطار، تنفست الصعدّاء وأطلقت الشهيق والزفير بصوتٍ مسموع ٍ، وأنا أفتح ذراعيّ كي أضمَ إلى ذاكرتي صورة أفق البحر وهدير موجه الذي اشتريته بسرقة أبي. ثم كمن كان مستعداً أن يبدو أمامي أرفع شأناً مما أتصور، قال :‏

- خذْ سيارة إلى الأبراج.‏

- أتعرف المكان؟.‏

- نعم فقد زرته مع أخي غسان.‏

خلال بضع دقائق كنا هناك، اخترنا مكاناً يطل على البحر، كان المنظر ساحراً وجميلاً، وقد تربعت على عرشه البواخر والسفن.‏

** ** ** **‏

- عفواً، ما تطلبان ؟.( سأل النادل).‏

- إبراهيم ما تطلب ؟.‏

- صحن " لبنة " وكأس شاي.‏

بتعبير ٍ أخلاقي ٍ رسم على شفتيه ابتسامة، ومضى لإحضار الطلب.‏

بعد الفطور أشعلنا السكائر بطريقة حاولنا فيها أن نقلدَ ما يمارسه أولاد الأثرياء في تدخينهم للسكائر الأجنبية المهربة، وبين سحب الدخان حدقت في وجهه، شعرت به قانطاً متوتراً "ربما عجزه عن الدفع" خمنت في سري، وربما ما لم أكتشفه بعد!.‏

كنتُ على يقين ٍ أن كلينا يخدع الآخر، وبما أنني كنتُ بحاجةٍ ماسةٍ إلى رفيق ٍ يشاركني خوفي واضطرابي في منزلق حياتي، كنت سعيداً برفقته لأثبت له أني سيد الدفع!‏

وبما أني صاحب ذاكرةٍ تخيلية بارعة قلت له:‏

- أتعرف لو أن هذا البحر كان موجوداً في حلب لزادت عراقتها وأهميتها، وأصبحت أجمل مدينة في العالم، تصور القلعة وسط بحرٍ يغطي امتداده كلّ الجهات المحيطة بها، قال نهر قويق، أف أحسُ برائحته تزكم أنفي الآن!.‏

استنكر أن أكون الآن قد شممت رائحة النهر! وبحرص ٍ على مجاراتي في الحديث قال:‏

- معك حق، رائحة النهر تشكل معضلة بالنسبة للمباني والشوارع المجاورة له، ثم ومع آخر رشفة لفنجان القهوة بعد كأس الشاي قال:‏

- هيا بنا، لن نقضي الوقت كله هنا.‏

نزلنا بواسطة المصعد، خرجنا إلى الشارع سألنا عن سيارة أجرة تأخذنا إلى رأس البسيط، فاستغرب من سؤالنا بعض السائقين الذين سألناهم لأننا كنا في فصل الشتاء ولا أحد من الناس يفكر بالذهاب إلى رأس البسيط سوى أصحاب "الشاليهات" وذلك من أجل تفقد الأشياء الموجودة فيها، هذا ما قاله لي إبراهيم، وحين طال زمن السؤال، قررنا أن ننام في الفندق، أية حجة يمكنها أن تؤوينا في فندق، لهذا طلب مني إبراهيم أن نذهب إلى الشاطئ الأزرق، نجلس في الصالة الشتوية لنشاهد البحر عن قربٍ، ونتغذى سمك مشوي ثم نختار فندقاً أجره بسيط، رأيه أقنعني لأنه لم يسبق لي أن غادرت حلب أبداً !‏

مع حلول المساء جلسنا نحدق في السقف والجدران وهذه النافذة الوحيدة، لأشعر بأننا لاشيء، مجرد أحمقين متهورين تخاصما مع الحياة والناس وخاصة الأهل، فتمردا عليهما بالانعزال ليعيشا كما يرغبان.‏

سرقت أبي، وجئت إلى هنا كي أبتعد عن التشويش والتسفيه والتجريح. لأجد أن كلّ ما حلمت به كان مجرد وهم ٍ؛ وأن حلم الإحساس بالراحة يتحول إلى جمرٍ يغلي في ذاكرتي وأوردة جسدي!.‏

نام الرفيق وبقيت وحيداً تفترسني المخاوف، اقتربت من النافذة فتحتها، بدا لي المنظر مرعباً. سواد الليل يغطي المكان، وصوت سيول الأمطار التي نزلت في هذه الليلة بدت كأنها في حالة جنون. فتخيلتها نبالاً تخترق الأرض، وحفيف أوراق الشجر غاب بين موسيقا إيقاع المطر، وجنون قلقي. فأوهمني ذلك المشهد أن جذوع الأشجار. التي كانت تحيط بالفندق ستنفصل عن جذورها كي تنقض عليّ وتخنقني تماماً كما حصل في أحد الأفلام التي سكنت ذاكرتي. أغلقتُ النافذة، وتكورتُ على السرير مرتعشا ً.‏

في تلك اللحظة اكتشفت أن المتعة الحقيقية كانت كامنة فيما كنت أعيشه. خصومات بلا وفاق، مشاتمات بلا مشاعر، لقاءات سرية بلا رقيب، " ما تفعلين الآن؟ اشتقت إلى قبلاتك الدافئة، وصدرك الناهض. أحسُ بالشوق يدفعني إلى محاربة المطر والريح والبرد بقدرة عاشق ٍ يقوى على كلّ المعيقات الموجودة على سطح الأرض لأكون قربك وفي ذلك التوقيت بالذات!.‏

لم يطلْ إحساسي بالشوق نحو من ُأغرمت بملامسة أنفاسها وشفتيها. صوته جعلني أقفز عن السرير مثل أرنبٍ مذعورٍ، لم ألتقطْ ما كان يدمدم به، كان جسده ينتفض، وشفتاه ترتجفان، فهززته من كتفه وأنا أقول:‏

- إبراهيم، انهض، ما بك، اصحَ.‏

فتح عينيه بصعوبة وملامح الخوف تزيدني توتراً وبلبلة ً، وأياً كان خوفي مما أرى فهذا ما أريده! يا لروعة الوجه المبتئس، لن أضيع الفرصة سألته:‏

- إبراهيم ما بك ؟ لقد أرعبتني!‏

- كا.. بو.. س... كابوس فظيع!.‏

في أسى فرك عينيه، ثم نهض، نظر في وجهي، نظرات قرأت فيها اللوم والعتاب والشعور بالذنب. وبقوة ٍ حاول ألا تضيع منه قال:‏

- غداً، نعود إلى حلب، أو أعود وحدي!.‏

كنتُ مثله مضعضعاً، اخترنا طريق العزلة عن المجتمع المحيط، لنكون مثل ذئبٍ مشلولٍ وثعلبٍ أعمى!.‏

حينئذٍ جلست قربه، وبدأنا نحكي عن همومنا، وعن ظلم الأهل لنا. وبحكم فراستي، لم يطل زمن توقي لمعرفةِ ما ذكره عن كابوسه، نبش الحقيقة ما بقي خافياً عليّ، هو الآخر مطرودٌ من بيت أبيه، طرده أبوه وحلف يمين الطلاق على أمه أنه لن يدخل البيت ثانية!.‏

أخفيت معالم النشوة التي خفق لها قلبي، وأنا أتلقف حديثه الشائق الجميل، الذي جعلني أحس أني لست الوحيد المغبون حقه في هذه الحياة!.‏

حين قررنا العودة لم نعدْ في القطار، مساء اليوم التالي ركبنا في واحدة من باصات "الهوب، الهوب"، وحين أصبحنا في كراج حلب ودع كل واحدٍ منا الآخر، وحين ابتعد عني ترجلت خطواتي مثل حصان جامح ٍ أصابه مكروهٌّ، فشعرت بالضيق لأني عدتُ وحيداً لا شريك معي، أحسست بضوء مصابيح السيارات أعيناً نارية ً تريد أن تغتالني!.‏

أين سأذهب ؟ أعرف مصيري في بيت أبي !! فخطر في بالي أن أذهب إلى بيت جدي على الأقل أستعيد بعض قوتي.‏

عند الباب ترددتُ، ثم ضربت الباب " بالسقاطة" المعلقة في وسطه من الأعلى، بعد هنيهةٍ لاح جسد من طحنته السنون، وقف يُحملق في وجهي بشيءٍ من الذهول!‏

جدي الذي أنكرني قال وهو يشحذ الكلام من بين "دكة" أسنانه بصوتٍ تآكلت منه الحروف:‏

- نعم... خير إن شاء الله ما تريد؟!.‏

- أريد أن أرى أمي؟.‏

- أم... ك، الآن تسأل عن أمك!‏

دفع الباب في وجهي يصدني من الدخول وهو يلعن البذرة الفاسدة والساعة التي جمعتنا وإياهم وختمها:‏

- الله يرحمنا، أمك صارت في روسيا !.‏

انخسفت بي الأرض، ونتأت خلاياي الراجفة برعشة باردة انعقد لساني، إذن ما قالته أم نوري صحيحٌ! ولكن إلى هذه الدرجة من الكراهية بدوت أمامه نكرة لا يقبل أن يعترف بوجودها؟!.‏

اشتعل رأسي بالنار، وتكاثف الدخان من حولي،وتهالكت قواي أيقنت أني منبوذ، وعليّ أن أجابه مصيري بالطريقة التي تناسبني. وبعنفٍ وحشي ُيغلق الباب في وجهي، وبعيون خضلتها الدموع أستعرض سمفونية ضياعي بلا توقفٍ!.‏

الحياة لعبة مصير، فقررت أن أكون الغالب لا المغلوب ولكن على طريقتي، سأجعلهم يندمون، سأنتقم منهم جميعاً!.‏

طاش واحدٌ من القطيع الذي بددته حيزبون المآتم الأسرية، ولكن إلى أين أذهب؟ وأين أنام؟ وكيف أدخل البيت؟ ماذا لو كانت الشرطة في انتظاري ؟ وعلى الرغم من تمردي وحقدي شعرت بالخوف، فقلت في سري:"يا رب تدبر أمري"!‏

خائفاً قررت مواجهة مصيري، مرتجف الخطوات صعدت ُ الدرج، وحين وصلت التقطت أنفاسي، نقرت الباب بأصابعي ففتحت أختي فريدة، من حسن حظي أنها لم تكن نائمة ومن خلال نبرتها المرتعشة انتبهت إلى ملامحها وسط بصيص ضوء الغرفة الذي انسل جزء منه إلى حيث أقف وسط ظلام الدرج، تصورت فيها ملامح أمي الذابلة! وبرفق ٍحزين ٍ قالت:‏

- ادخل وبدون صوت، جدتك نائمة.‏

في الشرفة أخبرتني بصوتٍ خفيض ٍ أن والدي متشبث برأيه في تسليمي إلى الشرطة، فأسلمت جسدي إلى أرض السطح بعد أن زودتني أختي بحرام ٍعتيق ٍ ومهمل ٍ كي لا تثير شكوك جدتي، وبدأت أفكر!؟‏

لم يكن مساءً عادياً، كانت ليلة مشحونة بالأرق وبالتساؤلات المرعبة، ودموع أختي المخضلة بالخوف أيقظت في نفسي مشاعر من نوع ٍ خاص ٍ، فتحول تفكيري إلى نمطٍ آخر، إلى تحدٍ جديدٍ، لأسأل نفسي" - لماذا لم أتكيف مع الواقع الذي فرضه عليّ القدر عندما انفصل الزوجان عن بعضهما تاركين ربيعاً من الطفولة يذبل قبل أوانه. أختي تريدني أن أكون رجل البيت، هذا التصور أعاد لي جزءاً من آدميتي، فأحسست أني سأنزل مسرعاً إليها كي أقبلها، وأضمها إلى صدري قائلاً لها ولأخويّ ناجي ورضوان :‏

- سأكون رجل البيت شريطة أن تسمعوا كلامي!.‏

أمام هذه الصورة من الجمال البريء عاهدت نفسي أني سأكون لها ولهما كلّ أهلهم وناسهم، فأنا الآن مشبعٌ بالرقة والسكينة على الرغم من وجود المخاوف المعششة في الأعماق.‏

صبيحة اليوم التالي أعطتني أختي إشارة الدخول، فالمحروس حضر يسأل ومضى يفتش!.‏

وحين دخلت الغرفة، واجهني ذلك الوجه الموبوء بالسأم الممل، المشحون بثرثرة الأحقاد والترهات، قائلة وهي تخبط بيدها على صدرها:‏

- من أين جئت ؟ بسم الله الرحمن الرحيم، أبوك خرب الدنيا! هي "عملة بتعملها"، والله بسْ يرجع ليكسر رجلك ويقطع يدك "يي"، يا لطيف * إن من أموالكم وأولادكم أعداء لكم فا حذروهم *.‏

كأني لم أسمعها تتكلم، فصوتها الجليدي أكره سماعه ومن غير أن أرمم وجعها وأعطيها الجواب الذي يشفي من توترها قلت لها :‏

- "أنت مادخلك، وسدّي بوزك" !.‏

حركت يدها كأنها تشكوني قائلة:‏

- طيب، سنرى حتى يحضر، يا لطيف ولد مغضوب، الله ينجينا !.‏

وهرباً من مواجهة الحقيقة، الحقيقة الذبيحة على بساطٍ من سرقةٍ، وسرقة من؟ سرقة أبيك! فتحت الباب وعيناي تحدقان في عالم مجهول.‏

قضيت النهار في حديقة "ميسلون"، وتقريباً الساعة السابعة بدأت رحلة الطواف في شوارع المدينة، حتى أنهكني التعب، فعكفت إلى الشيخ مقصود حيث شاهدني أبو سليم وفي حوالي الثانية عشر ليلاً كنت أنقر الباب ثلاث نقراتٍ.‏

حاولت النوم فأنا مجهدٌ، لكن الخوف الذي لازمني طيرَ النوم من أجفاني، فتخيلت هوائيات التلفزة ومداخن المدافىء، قد تحولت إلى أشباح ٍ تريد الاقتراب مني كي تهلكني!.‏

كالقرد الهارب من قفصه نزلت، وأنا أتسحب على رؤوس أصابعي، حتى اندسست في الفراش قرب أخوتي.‏

كان شخيرها مثل شخير محتضرٍ، وعيناها شبه مغمضتين وفمها نصف مفتوح ٍ، وشعرها القصير الأبيض منكوشٌ مثل صوف النعجةِ، ولشدة خوفي وفزعي مما رأيت أغمضت عينيّ، وأعتقد أني نمت.‏

في صبيحة اليوم التالي انتفضت مذعوراً، "يا لهذا الصباح الغائم"! رأيت وجهاً أثار الهلع في داخلي، كأني أول مرة أشاهده، كان محتقناً، ينمّ عن الحقد والغضب.‏

قرفصتُ كالمطعون في ظهره سائلا ًالملائكة أن تتنزل بالرحمة. دقائق مرت وهي تحملق فيّ مثل ضفدعةٍ هرمةٍ، وبعد أن تلمظت وابتلعت ريقها قالت:‏

- حرام عليك، تريد تموته.‏

- ماذا قلت؟.‏

- يا حرام سرقت الغلة والسندات، كأنك ما فعلت أي شيء !.‏

- أنا؟!.‏

- آ، أنت! وماعندك خبر، مسكين يا حرام مظلوم !.‏

- روحي على شغلك!.‏

بدت ملتاثة، أصبحت تدور في أرض الغرفة وهي تدمدم:‏

- آخ يا رأسي، الله يساعدنا، ولد مغضوب!.‏

نكاية بها رميت بالمنفضة وبالكأس التي كانت على المنضدة الصغيرة، فتطايرت نتف الزجاج وأعقاب السجائر على الأرض فصرختْ بصوت ٍ مرعوب ٍ :‏

- الله يأخذك، ويقصف عمرك يا مغضوب!‏

وانقضت عليّ مثل ساحرة، وأخذتني بين يديها بعد أن غاصت أصابعها المعروقة داخل شعري، فضربتها فصرخت متوجعة:‏

- الله يغضب عليك ويأخذك حتى نرتاح، والله، والله.....‏

ولم تكمل جملتها، لأن صوت المفتاح أعلن عن حضور ولي الأمر!!.‏

بقسماته الغاضبة انتصب في أرض الغرفة، وما إن رآني حتى هجم عليّ وراح يضربني بلا وعي، فكاد يغمى عليّ!‏

في تلك اللحظة تمنيت الموت، وكانت فكرة الموت على يديه تروق لي كثيراً. فقلت في نفسي: اضربْ، اضربْ بشدةٍ ما عدت أحسُ بالآلام، لن أموت، سأعيش حتى أراك حاملاً صندوق فقرك وعجزك، بعد ذلك يا مرحباً بالموت!.‏

لن أكون الولد الرضي، كنت البادئ، والبادئ أظلم! أنت من علّمني غش الزبائن، أنسيت كيف كنت ُتبدل تسعيرة القطعة وأنت تقول: " الزبونة" لا تفهم بالمقاسات، قياس نمرة ثلاث سعره أغلى! ضعها على قياس نمرة واحد !!.‏

والتي تنازلت لك عن حقها الشرعي، تنكره عليها وتقدمه إلى زوجة جديدة. اضربْ بقسوة أكثر، لن أعترف بما فعلت! ولن أخبرك أين ذهبتُ، وكم صرفتُ؟ وكم بقي معي، وأين أخفيته؟!.‏

- ما فائدة ضربك الآن؟ تحجرت أوجاعي، ما عدتُ أحسُ بالآلام، لن تسمع صوت أنيني أو بكائي!، أصبحتُ مثل حجر، أصم ثقيل، لا يتحرك"!!!.‏

رضوان وناجي وفريدة وقفوا يصرخون ببكاءٍ مطير وهم يشاهدون الدماء تنفر من أنفي وشفتي، وأم نوري التي صعدت إلينا على صوت الضجيج والصراخ دخلت تسأل ما الخبر؟ كانت هي الأخرى واهنة، راجفة اليدين. وبدلاً من أن تصدّه جدتي، وقفت المرأة الغريبة حائلاً بيني وبينه، تمنع يده القاسية عني، فقد أدمى وجهي! وبلا مراعاةٍ للخواطر خواطر الذين كانوا يبكون على أخيهم، خرج وهو ُيهددُّ بإخبار الشرطة!!.‏

بعد ساعة عاد كمن كان في حربٍ مع الهنود الحمر،عاد وغضبه النافر واضح الملامح وبلهجةٍ متوعدةٍ قال:‏

- إذا اعترفت لن أخبر الشرطة، سأعطيك فرصة، معك نصف ساعة قل ماذا فعلت بالسندات ومبلغ الخمسة آلاف ليرة؟ فقط احكِ الحقيقة! لن أضربك، سأنسى، ويا دار ما دخلك شر!!.‏

اقترب ناجي يتوسله في أن يعفو عني. انضمت إليه فريدة، وظل معانداً، لن يغفر لي فعلتي، وإذا اقتضت الضرورة فهناك شرط واحد، شرط واحد فقط ولا تراجع عنه، أن أخرج من البيت ومن دون رجعة إليه!.‏

ركعت أختي تحت قدميه ترجوه وتتوسل إليه أن يعفو عني، قبلت ساقه، فأبعد رأسها بيده وقال :‏

- مبسوط يا ابن ال، خذ حوائجك وامض ِ، هيا لن أقبل بوجودك، من يعرف كيف يسرق ؟ يعرف كيف يعيش وحده، هيا اخرج، اذهب من دون رجعة، يا الله "لابره اتفوووو".‏

حين طردني خرجت مهيض الجناحين، متورم الوجه حاملاً في صدري الجرح والألم، ولأني لا أعرف مكاناً غير حديقة "ميسلون" فقد بحثت عن مكان ٍ لا يراني فيه أحدٌ من المارة، وخواطر سوداء راحت تدور في عقلي ونفسي. لن أسكت على إهانته لي بهذا الشكل أمام جارتنا وأخوتي، سأردُّ المبلغ إلى العقاب الكبير، سأجعله بلا أجنحة، وسأجعله يندم على طرده لي أمام الجارة، سأكون أنا الرجل الذي يعاقب، وسيكون هو الطفل النادم، لن أدعه يرتاح، سأهدم حياته كما هدم حياتي.‏

في دوامة الصراع بين احتمال الألم والطرد، شاهدني عليّ فجفت دموع قلبي.‏

ابتسامته جعلتني أشعر بالكراهية نحوه أكثر من كل مرةٍ لكنه فيما عرضه عليّ طيبَ خاطري، وألزمني بمرافقته!.‏

في المقبرة أسندت ظهري إلى واحدة من الشواهد! عبارته أرجعت ذاكرتي، ورسمت صورته، وأعادت صوته "بدي ماما"، "أين قبرك أيها الطفل الصغير؟! تعالَ لأضمك إلى صدري مثلما فعلت يوم غادرت البيت أمي!‏

اخرج من قبرك، دعني أقبلك، قلْ أريدُ " لفة الزيت والزعتر"! في هذه اللحظة القاسية ورغماً عني انهمرت دموعي التي كانت متحجرة، فأخفيت وجهي براحتيَّ، وكأنه عرف بإدراكه ما أحتاجه في هذه اللحظة فأخرج من جيب قميصه حبة وقدمها قائلاً:‏

- خذْ، ابتلعها، تنسى وتصبح ملكاً!.‏

حبة واحدة صغيرة، جعلتني أشعر بالخدر يسري في عروقي وأنسى، حبة واحدة أرقدت ضجيج الحقد والغضب في ثقوب ذاكرتي فتهاديت مثل قشةٍ وضعتها الريح. حبة واحدة جعلتني أتعلق بعلي وأنفذ له كلّ طلباته، لأجعل من لغة القصاص في داخلي وأنا أحاور من لا وجود لشخصه أمامي بل في ذاكرتي نافذة في الدخول إلى العالم الذي بدأ " لخوفك من كلام الناس باتهامهم لك بالفشل وبالعجز من تربيتي تطردني، تتكتم على سرقتي لمحلك ضاغطاً على أعصابك بجبروت القاتل، تطردني لأنك أصبحت تخاف مني، وهذه الأخيرة أضافت إلى أفعالي شيئاً قوياً، شيئاً لا يمكنك أن تقدر ثمنه، جعلتني أشعر بأني قد انتصرت عليك !.‏

تباً لك يا أبا لهبٍ، تبا ً لك يا أبا غالبٍ، كلّ الذي استطعت أن تفعله، وفعلته أنك طردت ولدك من البيت، فهنيئاً لأبوتك بما فعلت"‏

وحين لكزني عليٌ بطرف حذائه، انتفضت من مكاني وسألته :‏

- ما الأمرْ ؟‏

أجاب بصوتٍ خفيض ٍ:‏

- هسْ، يوجد رجالٌ قادمون، ازحف ورائي نحو الشجرة!.‏

ما أرهب هذه اللحظات؟! وما أسوأ برودة أعصابه؟!.‏

زحفت معه نحو الوراء كما تزحف السحالي، وعند جذع الشجرة تمددنا، وانتظرنا هبوط الظلام، فنظرت من حولي كانت القبور راقدة في جوف صمتها كما القوقعة، والظلام يتسربل عميقاً في قلب الصمت!‏

ما أقسى النوم بين ظلال القبور والشواهد! وما أحوجني في تلك الساعة إلى أريكةٍ من قش ٍ أو إسفنج ٍ أو قطن ٍ أو حتى خرق ٍ باليةٍ، المهم أن أجد ما أضع عليه رأسي "انقلع لبره، يلعنك ابن حرام!".‏

هذه الجملة ثقبت أذني وسكنت فيها، فأشعر في تلك اللحظات أني أكرهه بجنون، بعد أن تراءى لي أن الحياة متآمرة معه ضد جميع حقوقي الإنسانية!‏

حين خرجت من البيت مجلجلاً باليأس ومكبلاً بفجيعة الطرد أحسست أني ابتلع جبلاً وعراً، كان الطريق مشغولاً بضجيج السيارات وبأصوات الباعة وبحركة بعض المارة وكنت مشغولاً بضجيج ٍ من نوع ٍخاص ٍ، من نوع ٍلا يظهر!.‏

في هذا المكان تجاهلت أني كنت أراقبه، وحين أخرج من جيب بنطاله مفكاً صغيراً وراح يحفر عند الجذع سألته:‏

- ماذا تفعل؟.‏

- هسْ، لا ترفع صوتك!.‏

جعلني أجلس مذهولاً أراقبه، ما الذي أخرجه من تحت التراب؟ ما هذه الأعصاب القوية ؟ إني أراه يجلس مثل نمس ٍ متمرن ٍ يلف سيكارة، وكان لابدّ من سؤاله:‏

- ما هذا؟.‏

- " كيف "‏

- ما معنى "كيف"؟.‏

- حشيش!.‏

حين سمعت بكلمة حشيش توارت قوتي، كما توارت داخل القبور الأكفان والأجساد والعظام. كنت في تلك اللحظة متأرجحاً بين الخوف وبين الهروب. بين ماأحس به من ضحكٍ، فأطلق أصداءه المتعفنة داخل أفنان روحي المتكسرة لأوقظ كلّ الأموات علهم يشاركون غالبٍ المقهور الضحك على كلامه لأمي:‏

- آ... حاجة بقى ما في واحد مات ورجع على الدنيا، وحكى للناس عن عذاب القبر!.‏

فأصيخ السمع علني أسمع ما ينافي ما كان يقوله لأمي:‏

- " آ... ست مفتي "خانم"... بيعينا سكوتك!".‏

ولأني كنتُ ساكتاً أعيد ترتيب الكلمات لماض ٍ لا يزال مغروساً في الذاكرة وقد بدأت أدخن سيكارة الحشيش، التفت إليّ يسألني:‏

- هل ارتحت؟.‏

- بل "انصطلت" !.‏

فجأة سمعنا صوت قعقعة عصا، تنبهت حواسي نحو مصدر الصوت، فرفعت جسدي قليلاً، ونظرت من خلف الشاهدة التي كنت أجلس بجوارها، كانت الشمس تحاول اختراق الغمام، وثمة رجلٌ يضرب زوايا الشواهد بعصاه. قررنا أنا وعليّ الانفصال حتى المساء، على أن نلتقي بعد المغرب في المكان ذاته، عند الشجرة الموازية لعمود الكهرباء.‏

لم أنزل من الطرف الشرقي، لحقت بالرجل صاحب العصا، وحين أصبحت قريباً منه، نظرت إليه، فرأيته مغمض العينين، فتشجعت في أن أمدّ له يد العون قائلاً :‏

- على مهلك يا عم، هات يدك !‏

خامرني إحساس غريب وأنا أمسك بيده بأني أعرفه منذ زمن بعيد، أحسست كأنه يعرفني منذ زمن بعيدٍ أيضاً! أبدى الرجل ارتياحاً من وجودي إلى جانبه، وقبل أن يترك أحدنا الآخر سألني:‏

- أتزور أحداً؟.‏

وكان عليّ أن أكذب :‏

- نعم كنت أزور قبر أخي الصغير!.‏

- لا حول ولا قوة إلا بالله.‏

ضرب الأرض بعصاه، وبصوتٍ جهوري راح يردد:‏

- لله يا محسنين... لله.... !‏

تمنيت أن يكون ذلك الرجل والدي وتخيلته يناديني:‏

- غالب، تعالَ ساعدني، أريد دخول الحمام!.‏

بعد نزولنا من المقبرة نقدت الرجل عشر ليرات فسمعته يدعو لي بطول العمر، تركته ووقفت على الرصيف أفكر إلى أين سأمضي؟!‏

داهمتني فكرة العودة إليهم للسؤال عنهم، عن أخوتي فهذا حقي!‏

استراحت الفكرة في رأسي المتعب، فسابقت الريح وحين وصلت، أسرعت في الصعود إلى البيت بحذرٍ. فقد بدا لي أني سأواجه مصيراً متعباً، وجهي لم يشف بعد! طرقت الباب طرقاً خفيفاً، وبعد هنيهة من الانتظار المزعج، فتِحَ البابُ وبصوتٍ مهذبٍ قالت:‏

- ادخل، جدتك، عند أم نوري.‏

نظرت في وجهها أتأمل قسماته، كانت عيناها غارقتين بالدمع فسألتها عن السبب، فقالت:‏

- بابا لن يرسلني إلى المدرسة، قال: واجبي أن أتعلم شؤون البيت والطبيخ، ومستقبلي في الزواج وليس في طلب العلم.‏

ضربت رأسي بنخوة ٍأيقظت كلّ الكبرياء الهامد في نفسي:‏

- يريد أن تشتغلي خادمة، أما يكفيه ما فعله بي؟!.‏

مسحت دموعها التي انسلت من عينيها على خديها من اختزان الألم ثم رمتني بابتسامة مشحوذة، وكأنها تدرك أكثر مني أبعاد الوقيعة، قالت:‏

- أنسيت أني سأخدم إخوتي؟!.‏

أخرستني وأخرست نبض الدم في عروقي، أكانت تقصدني؟‏

أكانت تلمح إلى علاقة أبي بي، وعلاقتي بأبي!؟ شعرتُ بالتوتر يغزو ملامحي الجافة، الضيق يتشعب في الصدر وبنظرة خاطفة حانية قلت :‏

- بوسي رضوان وناجي، وخذي بالك منهما ولسوف أسأل عنكم، لقد تأخرت!.‏

في ظهيرة ذلك اليوم شعرت بتغيرات الطقس تشبه تغيرات نفسي فنحن مع بدايات دخول فصل الصيف، بلا عافية رحت أمشي، أجتر خطواتي اجتراراً دبقاً وأنا ألف وأدور في الشوارع والحواري وقد اعتراني اليأس الذي اغتصب فرح العقاب الصغير!.‏

ولحظة قرأت الإعلان المعلق على واجهة المحل الزجاجي ترددتُ في الدخول، ترددتُ في السؤال، ترددتُ في أن أكون أجيراً مرة أخرى فعدلت عن الدخول للسؤال عن عمل ٍ، فما زال معي من المال ما يفي حاجتي!.‏

دخلت إلى دكان الفوال أبو عبدو طلبت صحن فول بالطحينة مع فحل بصل كما يقولون وجلست أفطر، كانت شهيتي إلى الطعام قوية، مسحت الصحن كله ورغبت في طلب المزيد لكنني خجلت!‏

وحين خرجت من عند دكان الفوال، رأيت إبراهيم وهو يخرج من محل تصليح الساعات، ندهته، التفت نحوي قائلاً:‏

- أهلاً غالب، كيف حالك؟.‏

- الحمد لله.‏

تنبهتُ إلى شيءٍ مهم ٍ، شيء كان يجب ألا يغيب عن ذاكرتي فسألت بلهفةٍ:‏

- صحيح، ما أخبار أمك وأبيك؟ هل طلق أبوك أمك؟!.‏

- فأل الله ولا فألك، انحلت.‏

- كيف؟.‏

- تدخل صهري بالموضوع،لا تؤاخذني مستعجل، إنه ينتظرني.‏

- من؟.‏

- صهري.‏

في الحقيقة لم أكن أريد له هذه النهاية، كنت أريده أن يكون مثلي ولأنه كان غير مضطر أن يجود عليّ بتفاصيل الأشياء فقد تملص بحنكةٍ وركض يقطع الشارع، وأنا أراقب ظلاله التي صارت بعيدة عن عيني، شاهدت الرجل الأعمى يحاول أن يعبر الشارع فركضت نحوه مسكته من يده وقلت:‏

- مرحباً يا عم، أتريد عوناً.‏

- كأني سمعت هذا الصوت!.‏

- أنا غالب الذي كنت أزور قبر أخي هذا الصباح.‏

- أهلاً، بارك الله في سعيك.‏

ومشى على الرصيف ينادي " لله يا محسنين لله " بعد أن ترك يدي، فعرفت أنه لا يريد أن يظل بقربي، فقررتُ مطاردته!‏

بدأ خط سيره من منعطف مفرق "الجابرية" إلى شارع "الحميدية فالنيال"، وعند كلّ زاوية كان يقف بعض الوقت ينادي "لله يا محسنين" حتى وصلنا الجامع الكبير!، وحين ابتدأت الشمس تميل نحو المغيب خرج الرجل من الباب الرئيسي للجامع الكبير، ما أثقل الزمن الذي كان يمر ببطءٍ على رأسي وقدميّ وأنا واقف أتعقب كلّ حركاته وردود أفعاله مع الذين يدفعون، والذين لا يدفعون.‏

حين خرج الرجل وقفت أمامه وقلت بكل جرأة :‏

- مساء الخير يا عم، أتريد عوناً ؟‏

- أنت ثانية ؟‏

- نعم، أنا غالب وأرغب أن أساعدك في عبور الشارع!!‏

شعرتُ بروحه ُتحدقُ بي وهو مغمض العينين، إحساسٌ غريبٌ دفعني إلى التفكير بملاحقته، حاجة ملحة دفعتني وبكل جرأة في أن أقول له وأنا أمسك بكوع يده:‏

- لديّ مشكلة ولن يساعدني على حلها أحدٌ غيرك، أرجوك أعطِ المغلوب على أمره فرصة البوح والفضفضة، فأنا مطرود من بيت أبي!‏

- مطرود! لا حول ولا قوة إلا بالله.‏

فرقع الرجل بعصاه وهو ينقر حجر الرصيف وقد اهتزت أوداجه ولحيته الكثة، وتركني أمشي إلى جانبه من غير أن يقول شيئاً، أو حتى يسحب كوعه من بين أصابعي !.‏

من الطرف الشمالي للمقبرة مقبرة "ميسلون"، وتحت الدرج دخلنا إلى مكان ٍ يشبه المغارة، كان يعرف الطريق جيداً وكأنه مبصر.‏

ثمة حمارٌ أبيض كان يقف في طرف المغارة، وحين شاهد صاحبه يدخل راح ينهق. ربما من الفرح لأنه لم يعد وحيداً، وربما لأني دخلت معه. كانت رائحة الرطوبة تضغط على الأنفاس، وأمام الفعل الجميل وعلى الرغم من وجود كلّ الأنات الهاصرة لأحلامي، توقف الضجيج المعربد في رقعة هذا المكان المخيف وسمعته يقول:‏

- أهلاً بك في بيتي المتواضع.‏

- يسلمْ البيت وأصحابه.‏

مع بداية هذه العلاقة أعترف أن زمن الاكتشاف العجيب لم يكن طويلاً، فالرجل لم يكن أعمى. كان مبصراً ولشدة دهائه جعل من نفسه أعمى كي يُلقط رزقه كما كان عليٌ يُلقط رزقه بالسرقة ليدخن- الكيف- وأنا الوليد الحديث العهد بينهما، لأكون فيما بعد الشريك والمشترك فيما أفعله وفيما لم أفعله.‏

مددت الحصير المهترىء على الأرض وجلست قربه أسندت ظهري إلى تجاويف الحائط البني الداكن، وببشاشة طيبة النبرة سألني:‏

- هل أنت جائعٌ؟.‏

حقيقة، كنت جائعاً لمعرفة السبب الذي جعله يمثل دور الأعمى على الناس، وحين أيقنت أن الخير والشر وجهان لعملةٍ واحدةٍ أحسست بشوق ٍ عارم ٍلنوال، راودتني مشاعر الشوق في أن نلتقي معاً في هذا المكان القصي، نختبر فضاء روحينا بلقاء العاشق بحبيبته داخل كهفٍ لا يهتك الستر فأذكر ما كانت تقوله "أنت تكذب علي لا تحبني"!‏

في اللحظة تلك يورق ذراعاي فيورق الحلم السرمدي المخضب بدخان نرجيلة الشيخ محمد فأسمع تردد نأمة الإخلاص في عذوبة ضمها إلى صدري:"- أنا بحبك، بحبك حتى الموت".‏

أتلقف رضاب كلماتها من ريق فمها وأعصر شفتيها بين شفتيّ، وبحركة ما تفلت من بين يدي وتغيب وراء سكون الباب وهدوء الليل! ويظل عطرها الأخاذ معششاً في خلايا روحي وأنفاسي، حتى أتنبه من حلمي لأواجه ضمن هذه الرقعة الصغيرة ما أفزعني لحظة حدقت إلى مخبئه التحتي وإلى نظرات عينيه الشهلاوين المحدقتين بي!.‏

- ما تريد أن تعرفه عني؟ قصة حياتي، يوم ولادتي، شجار أمي مع جدتي، وجدتي مع أمي!‏

كره أبٍ زرع اللؤم والحقد والتمرد في الصدر والقلب والجبين نغمات حبٍ خفي ٍ لن يزهر أبداً! إذن اسمع تفاصيل قصتي، ولا تفوت حرفاً.‏

بإمعان ٍ راح يستمع إلى التفاصيل بعد أن ارتسمتْ على شفتيه ابتسامة جذابة، شممت منها رائحة حنان ٍ، جعلتني أطمئن إلى مجالسته في مسكن أحزانه!.‏

أغمض الحمار عينيه، وأغمض الشيخ محمد عينيه بعد أن استلقى بجسده على فراش من الإسفنج مليءٍ بالبقع والدهون تفوح منه رائحة العفن، بينما ركب رأسي القلق لأشعر في هذه الليلة برغبةٍ في أن أنهزم إلى حيث ينام عليٍّ، لكن الطمأنينة التي انداحت في داخلي جعلتني أندس تحت اللحاف المهترىء بعد أن وضعت الرأس على أريكةٍ من قش ٍ.‏

وهنٌ شديدٌ بعثرَ كلّ أفكاري وآلامي، وشدني إلى نومٍ على الرغم من جراح النفس.‏

صبيحة اليوم التالي استيقظت مثقل الرأس، موجع الظهر وجلست أسأل روحي "تُراني سأتعرف إلى أرواح جديدة ممن تحفظهم المقبرة داخل ترابها ؟!. أم سأتعرف إلى أشخاص أحياء لا يهجرونني ولا يوزعون الشماتة في أشلاء روحي؟! أم سأصاب بالهول من فظائع الأمور حين أسمع صوت أحدهم يخاطبني من غير أن أراه ؟!.‏

كانت كلّ الأفكار تجيء و تتوارى بغمضة عين ٍ! والشيخ محمد خرج يلملم رزقه بعد أن تركني وحيداً أغط في نوم لا يشبه النوم.‏

تأملت المكان والحمار جيداً، تمنيت أن انقلب إلى حمار مثله كي أعيش بلا ألم وبلا توبيخ ضمير، فتقشف هذا المكان ارحم بملايين المرات من سرير وفراش دافئ نظيف يقض من هدوئه ثرثرة عجوز لا ترحم، لهذا قبلت بهذا القدر الذي فرض نفسه علي.‏

علاقة غريبة توطدت بيني وبين الشيخ محمد، محورها الهروب من واقع الأخطاء المفروضة علينا، يجمعنا الليل ويؤنس وحدتنا حمار أبيض. هكذا وبلا مقدمات مادية تجد نفسك في مكان غير مكانك الأصلي، مكان فرضته عليك ظروف أسرة لم يكن الحب ديدنها، بل النكد والحرد والطلاق والزواج، وحين كنت سجيناً في دار الأحداث يدفعك إلى التوبة مدير الدار والمرشد النفسي. فينتهز والدك فرصة عدم وجودك ويتزوج!.‏

وحين ُشفيَ وجهي من أثر علامات الضرب التي أحدثها أبي، بدأت البحث عن عمل ٍ! ولن أقبل أن أكون عالة على صاحب المأوى الجديد!.‏

حين خرجت من المغارة رأيت الضوء الحقيقي، فنور مصباح زيت الكاز كان يجعلني أشعر بالسأم والقنوط، ونهيق الحمار يسرق مني الهدوء، فأشعر بالخوف.‏

في شارع "النيال" درتُ على أصحاب المحلات لبيع الألبسة الولادية والنسائية، وحين قرأتُ الإعلان المعلق على واجهة اللوح الزجاجي ترددتُ في الدخول، ترددتُ في السؤال، ترددتُ في أن أكون أجيراً مرة أخرى، لكنني مضطر، فدفعت الباب، ودخلت.‏

كان جالساً وراء منضدة كبيرة يشرب فنجان قهوة، رده البارد أزعجني لكنه عندما قال : نجرب، فكرت في القبض على صلعته ذات الانحدارات المتنافرة كي أقبلها.‏

كانت مهمتي أن أمسح الغبار عن خشب الموبيليا بقطعة قماش من القطن الناعم، في هذا المكان الواسع تخيلت أبي يقف أمامي معتذراً عما بدرَ منه في حقي وأنا أدفع إليه المبلغ الذي سرقته من المحل، وهو نادم على قبوله شرط الزوجة الجديدة " مالي علاقة بالأولاد".‏

بعد التاسعة أذن الرجل لي بالانصراف وقد أبدى ارتياحاً من خبرتي في التنظيف.‏

مضيت ناحية دكان الفوال أبو عبدو أريد العشاء وما إن دخلت وجلست على الكرسي، ثمة يدٌ وضعت يدها على كتفي فاستدرتُ :‏

- مَنْ علي ؟ يا مرحباً.‏

دعوته، فشاركني العشاء، وحين أردت الدفع سبقني في دفع الحساب وخرجنا معاً، حاولت أن أتملص منه فلم أقدرْ، حاولت التهرب من أسئلته ففشلت، ووقعت في الاعتراف الصعب! فأخذته معي إلى المغارة، لم يكن الشيخ محمد قد عاد بعدُ! فنفضت الحصير، ثم مددتها، ووضعت المساند المحشوة بالقش، وجلست قربه أنتظر عودة الشيخ محمد لينظر في هذه الورطة. وحين أخرج من جيب قميصه السيكارة شعرت نحوه بمقت يتجدد في داخلي، رفيق السوء يشدني معه إلى رائحة الحشيش، فأدخن وأغيب مع خيالي، لأسرح مع نوال على سلالم الدرج، في المطبخ، في بيتهم تعتصر شفتاي شفتيها، أضغط على صدرها بصدري النحيل فأحس بنشوة ٍ تعتريني، ويدخل الشيخ محمد، يرى الدخان يملأ المكان، يشم الرائحة فلا يبدي انزعاجاً، يرحب بالضيف الجديد ويقول بصوت مبتهج :‏

- دخن عليها تنجلي!‏

اكتشاف جديد آخر أضاف إلى قائمة أحزاني الإدمان على سكائر الحشيش، لأكتشف فيما بعد أن المعسل من التنباك الذي كان يضعه الشيخ محمد على النرجيلة لم يكن خالياً من ذلك الشيء الممنوع.‏

رويداً، رويداً بدأت ُأدمنُ على تعاطي الحشيش، مرة من علي ٍ وأخرى من الشيخ محمد، في الوقت الذي كانت فيه شهيتي على الطعام تثير دهشتي، والكثير من الأسئلة !.‏

في محل الموبيليا وحيث أتقنت العمل جيداً، أصبحت أتقاضى الأجر الذي يفي بحاجتي إلى سدّ مصاريف طعامي وسكائري بصنفيها الممنوع والمسموح به، ولأني كنت صاحب أنفة وكبرياء، فقد انزعجت من المعلم صاحب المحل، حين دخلت سيدة أنيقة ذات جمال ٍ يسلب العقل، زاغت عيناه بساقيها المملوءتين والمكشوفتين حتى الركبة.‏

وحين أمرني أمامها بطلب السيد من الأجير، استنفرتُ وتكهربت أعصابي، وتوترت أنفاسي، فحدقت بالاثنين، ثم حدقت بالمرأة "هيْ أنتِ انظري في وجهي، أنا لست أجيراً، أنا ابن صاحب محل أيضاً احتواني هذا الأصلع بعد أن اختلقت عليه الكذب قائلاً له : يا عم أنا أبحث عن عملٍ كي أساعد أمي على مصروفنا، تركت المدرسة بسبب موت والدي بمرض السُكر،لم يترك لنا ما يحمي طفولتنا من غوائل الفقر والحرمان، من أجل أخوتي وأمي ضحيت بمستقبل دراستي".‏

في ذلك اليوم المشمس نقدتني المرأة بخشيش الغرفة التي دفعت ثمنها نقداً، خمسمائة ليرة، وحين التقيت بعلي قلت له :‏

- تصور يا علي خمسمائة ليرة بخشيش !!‏

برقت عينا علي ٍ وسَهُمَ بنظراته عني، ثم انشغل بلف سيكارةٍ، دخنت السيجارة في المقبرة ونقدته مائة ليرة ومضيت نحو بيتنا القديم.‏

وما إن وجدتني أدخل البيت حتى رشقتني بنظرة لئيمة كتلك التي لا تتوانى عن اجتثاثها من أخاديد تصهر روحها، فسألت نفسي حينئذٍ " ما الحدث الجديد الذي يجعلك تحدقين إليّ بهذه النظرات اللئيمة التي جعلتني أكرهك أكثر من كلّ مرةٍ!؟ "‏

حين دخلت البيت، فجعني أن أرى أخي رضوان يئن من ارتفاع الحرارة. أزهرت المرارة في روحي البائسة بالأسى والاكتئاب فخرجت مسرعاً، وعدت مسرعاً، نبهت أختي إلى ضرورة العناية به وبإعطائه الدواء كل ست ساعات كما أشار الصيدلي!.‏

لم أفكر بمغادرتهم، كنت مشحوناً بالشوق، ومشحوناً بالحقد أطحن اعتلال النفس برؤيته وقد أفجعه الله بوليده الجديد، فأختي أبلغتني أن زوجه حامل وفي الشهر الرابع!.‏

بوجع ٍ غارق في الألم غادرت البيت، وقبل أن أغلق الباب ورائي قلت:‏

- فريدة بأمانتك رضوان وناجي.‏

يتبـــــــــــع
------------



 الشويطي
 03:43 PM
 30.09.06
مقابر مرة ثانية يا بو باسل

ههههههههههههههه

تسلم ايدك بإنتظار الحلقة القادمة
1 2 
Up